في غضون أعوام قلائل، انتقلت السياسة الخارجية التركية من سياسة تصفير المشكلات إلى سياسة إشعال الحرائق والأزمات في مناطق شتى من حولها، وهذا الأمر لم يأت اعتباطاً ولم يحدث جراء أخطاء غير مقصودة في هندسة السياسة الخارجية، ولكن يتم بشكل عمدي مقصود كأحد نتائج الارتباط الفكري والأيديولوجي بين حزب العدالة والتنمية الحاكم من ناحية وبين التنظيم الدولي لجماعة "الإخوان المسلمين" الارهابية من ناحية ثانية.
في غضون هذه السنوات نجح "السلطان" أردوغان بامتياز في تحويل بلاده من نموذج للنجاح والتطور الاقتصادي والتنموي إلى نموذج للهيمنة والتسلط الاقليمي، باعتماد سياسة تدخلية في معظم ملفات وأزمات المنطقة العربية ومياه البحر المتوسط، فقد تدخلت تركيا في العراق وسوريا وليبيا وافتعلت أزمة حول البحث عن اكتشافات غازية في مياه المتوسط بدعوى أنها تقع في نطاق مياهها الاقليمية وجرفها القاري.
ومؤخراً فتح "السلطان" الباب على مصراعيه أمام تدخل تركيا في ازمة قديمة / جديدة، بإعلان استعداد أنقرة لتقديم الدعم العسكري لأذربيجان في نزاعها ضد أرمينيا حول منطقة "قره باغ"، والمثير للسخرية في الموقف التركي أن وزير الخارجية تشاووس اوغلو قال في حوار مع وكالة "الأناضول" الرسمية بعد أن اتهم أرمينيا بشن هجمات على اذربيجان، إن أرمينيا تؤكد بذلك "عدم اعترافها بالنظام العالمي والقوانين الدولية"!
من الجيد أن النظام التركي لا يزال يتذكر أن هناك ما يعرف بالقانون الدولي، حيث اعتقد الكثيرون، ونحن منهم ، أن ذاكرة "السلطان" وحاشيته قد فُقدت ولم يعد يميز بين اهوائه والتزامات أي دولة ـ ومنها تركيا ـ بحسب ما تمليه المواثيق والأعراف والقوانين الدولية، ولكن السىء في الأمر أن السيد اوغلو يتحدث عما يعتقده دليلاً على عدم اعتراف أرمينيا بالقانون الدولي حين هاجمت دولة أخرى ذات سيادة ويتناسى تماماً أن بلاده قد فعلت ـ ولا تزال ـ ذلك مراراّ وتكراراّ سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا وأخيراً في انتهاك سيادة دول متوسطية على مياهها الاقليمية.
حسناً أن يعترف وزير الخارجية التركي بحق الدول في عن سيادتها وترابها الوطني، وذلك حين يؤكد أن أذربيجان بدورها "تخوض النضال في أراضيها"، مضيفا أنه "لا يمكن أن يحظى المحتل والطرف الخاضع للاحتلال بنفس المعاملة" وهو محق في ذلك تماماً بطبيعة الحال، ولكن من المعيب الكيل بمكيالين في هذا الشأن، فالذي يتحدث هنا هو من يحتل جيش بلاده أراض في شمال سوريا ويجتاح حدود العراق وينتهك أراضيه، ويرسل ميلشياته ومرتزقته إلى الأراضي الليبية بغطاء غير شرعي مع حكومة لم تعد لها أي شرعية في الداخل الليبي!
الحقيقة أن جزء كبير من مسؤولية العربدة التركية في الاقليم يقع على كاهل القوى الكبرى والمجتمع الدولية، فالدول الكبرى ترى سلوكيات تركيا الخطرة وتدرك جيداً تأثيراتها السلبية البالغة على الأمن والاستقرار الدوليين، وقد حدث ذلك في الصمت الدولي على تدخل تركيا وانتهاكها لسيادة العراق وسوريا، وكذلك ليبيا، والآن جاء الدور على قضية "قره باغ" حيث اكتفى قادة بعض الدول الكبرى بوصف الموقف التركي بالمتهور أو الخطير وغير ذلك، من دون أي موقف أو ردة فعل واقعية من شأنها ردع "السلطان" عن مغامراته المدمرة، التي تتحدى إرادة دول كبرى مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا، الأعضاء في مجموعة "مينسك" المعنية بتسوية الوضع إقليم "قره باغ".
هناك ـ بطبيعة الحال ـ أسباب وعوامل عدة تغذي العنجهية التركية في التعامل مع مثل هذه القضايا، فرغم أن أنقرة لاعب محوري ذي صلة في قضية "قرع باغ"، فإن دورها هذه المرة يتصاعد على وقع الفراغ الاستراتيجي الناجم عن انحسار الدور الأمريكي في هذه القضية، فالسلطان يتحرك في أزمات وقضايا عدة ساعياً لملء ما يعتقد أنه فراغ استراتيجي ناجم عن غياب الدور الأمريكي أو محدوديته، ليحاول تغيير المعادلات والتوازنات لمصلحة الدور التركي، كجزء من محاولاته المرتبطة بمخطط "العثمانية" الجديدة، وأيضاً في إطار التنافس الاقليمي بين إيران وتركيا، فضلاً عن سعي أردوغان لامتلاك ورقة ضغط اضافية تعزز موقفه في إطار أي صفقة محتملة مع روسيا حول مجمل الأزمات التي يتداخل فيها الدور الروسي مع نظيره التركي مثل سوريا وليبيا "وقره باغ" وغيرها. هناك أيضاً مرحلة التحول التي يعيشها النظام العالمي في مرحلة مابعد "كورونا" حيث يعاني مقعد قيادة العالم من حالة فراغ بانتظار حسم الصراع الدائر حالياً حول قواعد ومعايير السيادة والهيمنة في المرحلة المقبلة.
الواقع يقول أن ترك الحبل على الغارب للسلطان التركي ليواصل تدخلاته التي تقوض الأمن والاستقرار في مناطق شتى من العالم، سيدفع الجميع ثمنه غالياً في مراحل زمنية لاحقة، ولكن بعد فوات الآوان حيث يصعب التخلص من آثار هذه التدخلات المدمرة.