منذ اندلاع الحرب مجددًا حول إقليم "ناجورنو كاراباخ" سارع "السلطان" التركي رجب طيب أردوغان إلى فتح جبهة توتر جديدة مع روسيا، بإعلان وقوفه التام ودعمه المطلق لأذربيجان في صراعها مع أرمينيا حول الاقليم، ومن المعروف أن هذا الموقف يثير حفيظة روسيا التي سبق لها أن أظهرت "العين الحمراء" النارية للأتراك في عام 1993 حين حاولوا التدخل العسكري المباشر لمساندة أذربيجان في الحرب التي دارت وقتذاك مع أرمينيا حول "ناجورنو كاراباخ"، ووجه الروس إنذارًا قويًا بالتدخل المباشر في الأزمة إن حدث تدخل من جانبهم، أو من أي طرف ثالث في الأزمة، ما أدى إلى سحب الجيش التركي وحداته التي احتشدت على الحدود استعدادًا للتدخل القتالي.
روسيا لم تنذر تركيا هذه المرة أو حتى تحذرها بشكل قوي مباشر من دعم أذربيجان أو التدخل لمساندتها في القتال، رغم استمرار مصالحها الاستراتيجية الكبيرة مع أرمينيا، ورغم أن تركيا قد تجاوزت كثيرًا بحق روسيا سواء بشكل مباشر كما هو حاصل في ملفي الأزمتين السورية والليبية، ناهيك عن واقعة اسقاط المقاتلة الروسية "سوخوي ـ 24"، التي أسقطها الجيش التركي في نوفمبر 2015 بصاروخ على الحدود التركية ـ السورية، في حادث اعتبرته موسكو "خطيرًا جدًا"، ووصفته آنذاك بأنه "طعنة في الظهر من شركاء الارهابيين"، وهي الأزمة التي خيمت على علاقات البلدين حتى اتفقا على تسويتها واعادة العلاقات في يونيو عام 2016.
ظلت الرئيس بوتين بخلفيته الاستخباراتية العميقة يتعامل مع "السلطان" التركي طيلة السنوات الماضية حتى الآن، رغم أن هناك وثائق عسكرية تركية رسمية تم تسريبها ونشرت إعلاميًا، قد أشارت إلى أن أردوغان شخصيًا هو من أمر بإسقاط المقاتلة الروسية، ولكن يبدو أن الرئيس الروسي ينظر إلى الأمر من زاوية استراتيجية مختلفة، ويبدو أيضًا أنه يترك للسلطان الحبل حتى يلتف حول رقبته.
السياسة الخارجية الروسية لم تعد مستنفرة للقتال وتصعيد الأزمات، كما كانت خلال فترة الحرب الباردة، في عهد الاتحاد السوفيتي السابق، بل يلاحظ أنها باتت تميل إلى الدبلوماسية وتحقيق الأهداف الاستراتيجية بطرق أكثر فاعلية واستدامة وتأثيرًا وأقل تكلفة، وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن الخيار العسكري لم يعد من بين الأوراق المتاحة في جعبة الكرملين، فالأزمة السورية التي شهدت تدخلًا عسكريًا روسيا مباشرًا وقويًا لمساندة الرئيس بشار الأسد ومحاربة تنظيم "داعش" وجماعات الارهاب، خير شاهد أن هذا الخيار موجود وجاهز، ما يعني أن هناك مقاربات استراتيجية مغايرة في معالجة الأزمات والنظر للأمور ذات الصلة بالمصالح الحيوية الروسية إقليميًا ودوليًا.
بعض المحللين يفسرون الصبر الاستراتيجي الذي تمارسه روسيا بوتين تجاه استفزازات "السلطان" باعتباره حرصًا على المصالح الروسية ـ التركية، وهذا الأمر له بالتأكيد وزنًا في حسابات الكرملين ولكنني أعتقد أن الأهم منه يتمثل في حرص الكرملين على مصالح روسيا مع كل من أرمينيا وأذربيجان على حد سواء ولا يريد في ذلك رؤى صفرية أو فردية أو حادة، لاسيما أن علاقات روسيا مع أذربيجان قد تغيرت ايجابًا خلال السنوات الأخيرة، وحصل تعاون في مجالات عدة، كما يتمثل فيما حققته روسيا من مكاسب كبيرة بسلخ تركيا عن حلف الأطلسي عبر صفقة صواريخ"إس ـ400"، في ضربة قوية لتماسك الحلف ووحدته، لاسيما أن أنقرة قد تمادت إلى حد الوقوف على مسافة أمتار قلائل من خوض صراع عسكري مباشر مع اليونان إحدى شركاء الحلف!
ولاشك أن إنهاء خطر حلف الأطلسي بالنسبة لروسيا يمثل مكسبًا هائلًا، فمن المعروف أن تركيا تحتفظ بثقل كبير داخل هذا الحلف فهي ثاني أكبر جيش داخل الحلف، وكانت تمثل حائط الصد في مواجهة خطر المد الشيوعي خلال فترة الحرب الباردة، ورغم أن هذه الأهمية انحسرت تمامًا في ظل الواقع الجديد للنظام العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، ورغم التغيرات التي طرأت على استراتيجيات عمل الحلف، وتبدل أولوياته استجابة لهذا الواقع، فإن سعي روسيا للقضاء تمامًا على دور الحلف يبقى هدفًا حيويًا بالتأكيد لصانع القرار الروسي.
بوتين بدهائه السياسي والاستراتيجي المعروف أيضًا يدرك أن أطماع "السلطان" ستودي به في نهاية المطاف، وستضعف تركيا عسكريًا واقتصاديًا، وتجعلها في عزلة دولية قاسية، لذا يترك لهذه الأطماع الحبل على الغارب طالما لم تصطدم بشكل مباشر بمصالح روسيا أو تتسبب في عرقلتها، وبالفعل نرى جميعًا كيف خسر الأتراك أصدقائهم جميعًا وتحولت بلادهم على يد "السلطان" إلى دول مثيرة للمشكلات بتدخلاتها غير المشروعة في دول عدة، فالسر إذن ليس في قوة تركيا، بل في حرص الآخرين على توظيف ضيق أفق أردوغان وضعف وعيه الاستراتيجي وولعه بالشعارات وأمجاد التاريخ والماضي العثماني، ومن ثم ايقاعه في فخ السقوط الذاتي من دون خسائر أو مواجهات عسكرية مباشرة.