منذ تأسيسها في الثاني من ديسمبر عام 1971 على يد القائد المؤسس المغفور الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ودولة الامارات العربية المتحدة تتبنى سياسة خارجية رشيدة تنطلق من مبادىء الأمم المتحدة وميثاقها وتلتزم بالقوانين والأعراف التي تقوم عليها الشرعية الدولية، وهذا النهج الثابت لم يغب يوماً عن علاقات الامارات مع دول العالم كافة، لذا فقد جاءت كلمة الدولة التي القاها سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة معبرة عن التوجهات والثوابت التي تمثل إطاراً أساسياً للدبلوماسية الاماراتية التي باتت تتسم بقدر هائل من الديناميكية والفاعلية والقدرة على التحرك خارج أطر التقليدية والنمطية في العلاقات الدولية.
كانت طبيعياً أن تركز الكلمة بشكل كبير على تناول رؤية دولة الامارات لمعاهدة السلام التاريخية مع إسرائيل، وكيف أنها تهدف إلى فتح آفاق ومسارات جديدة للأجيال المقبلة، من خلال وضع أسس راسخة لتعايش وافنتاح وقبول حقيقي للآخر، حتى تكتمل ترجمة المبادىء والقناعات التي تؤمن بها الامارات إلى واقع يقدم المثل والقدوة والنموذج لكل البشر الذي من يعانون من آثار وتداعيات أزمات مزمنة كما هو حال الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
الرؤية الاماراتية للحاضر والمستقبل قائمة على مبادىء وأسس مترابطة في مقدمتها ضرورة حل النزاعات بالطرق السلمية، والانفتاح والتعددية وقبول الآخر، فالرؤى الأحادية المنغلقة قد تسببت في تأزم الأوضاع في القضية الفلسطينية، وهيأت الأجواء للتوظيف الارهابي لقضية عادلة حين استغلتها تنظيمات الارهاب أسوأ استغلال في جذب تعاطف الشباب وتجنيدهم وارتكاب الجرائم باسم القضية في ساحات ومناطق ودول لا علاقة لها بالقضية ولا بمعاناة أصحابها الحقيقيين!
كان مهماً للغاية أن تؤكد الامارات الأسباب الحقيقية للأزمات الراهنة في منطقتنا العربية التي ابتليت بالعديد من الصراعات ومناطق الفوضى التي انتشرت في دول عدة لتصبح بؤر جذب للارهابيين والمتطرفين، وساحات نشاط تملؤها قوى اقليمية تمول وتوظف تنظيمات الارهاب من أجل تحقيق أهدافها ومصالحها الاقليمية، لذا فقد جاء حديث سموه وزير الخارجية واضحاً كاشفاً حول التحذير من الأطماع التوسعية لبعض الدول الاقليمية التي تعيش أوهاماً تاريخية، دفعتها إلى تدخلات عسكرية سافرة في دول عربية عدة، اعتقاداً منها بأن لحظة الضعف الاستراتيجي العربي الراهنة يمكن أن تكون المدخل لإعادة كتابة التاريخ وإعادة رسم الخرائط وهندسة المنطقة وفق مصالحها وأهدافها!
لم تكتفي الإمارات في كلمة سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان بتشخيص الداء الاستراتيجي العضال في المنطقة العربية، بل قامت بطرح تصورها للعلاج من خلال الدعوة إلى بلورة موقف دولي موحد يرفض انتهاكات السيادة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، ويسعى للتوصل إلى حلول سياسية بقيادة الأمم المتحدة، وفسرت الدولة رؤيتها بالقول "لقد جاءت هذه التحذيرات من منطلق واقعنا وبحكم خبرتنا، فنقاط الاشتعال في اليمن وسوريا وليبيا والعراق وغيرها مرتبطة بتدخلات فجة في الشأن العربي من قبل دول تحمل فتيل الفتنة أو ذات أوهام تاريخية لإعادة بسط السيطرة والاستعمار على المنطقة العربية والقرن الإفريقي، مما تسبب في حروب دامية".
ولقد جاء تأكيد دولة الامارات على دعمها الأمين العام للأمم المتحدة بشأن وقف إطلاق النار حول العالم، انعكاس واضح لعمق الوعي الاستراتيجي بخطورة استمرار الصراعات والخلافات والحروب والأزمات وتزامنها مع تهديدات غير تقليدية في مقدمتها تفشي الأوبئة، حيث تعاني دول ومناطق شتى من العالم جراء انتشار غير مسبوق لجائحة "كورونا" (كوفيد ـ19) الذي أصاب أكثر من 35 مليوناً من البشر حتى الآن، وتسبب بوفاة أكثر من مليون انسان.
رؤية الامارات الاستراتيجية قائمة على احترام سيادة الدول والحفاظ على مصالح الشعوب، فهي تدعو للسلام والاستقرار في اليمن وترى أن "المناخ الحالي قد يكون مناسباً للتوصل إلى وقف إطلاق نار شامل وحل سياسي دائم تحت رعاية الأمم المتحدة"، وتدعو إلى "توحيد الصف اليمني؛ للوصول إلى حل مستدام"، وتدعم "النداءات المتكررة لوقف إطلاق النار الفوري في ليبيا، وندعو جميع الأطراف إلى الالتزام بالعملية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة والبناء على مخرجات برلين" والتشديد على مواصلة الدعوة والعمل من أجل التوصل إلى حل سياسي سلمي للأزمة لتحقيق الأمن والاستقرار الدائمين في هذا البلد العربي، وتطرقت الكلمة أيضاً إلى ضرورة وقف التدخلات الأجنبية في الشأن السوري، والتأكيد على أن "العملية السياسية هي السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة، وللحفاظ على أمن الشعب السوري".
وقد لفت سمو وزير الخارجية انتباه العالم أجمع إلى مسألة غاية في الأهمية والخطورة، وهي التحذير من تعرض مناطق الصراع إلى جائحة فيروس كورونا، باعتبار هذه المناطق الاقل استعداداً لهذا الخطر، ما يضع سكان هذه المناطق والعالم أجمع إلى خطر استمرار تفشي الوباء وصعوبة محاصرته والقضاء عليه، ناهيك عما يعنيه ذلك على الصعيد الانساني.
الامارات التي لا تنسى مطلقاً جزرها الثلاث المحتلة (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى) وتؤكد أنها لن تتخلى عن مطالبة إيران بإعادتها إلى أصحابها، لا تنسى كذلك الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، حيث جاءت الكلمة بمنزلة رد قوي أخرس ألسنة المزايدين على موقف الامارات تجاه الشعب الفلسطيني، وأكد سموه أن الدعوة "لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية بما يتوافق مع القرارات الدولية ذات الصلة ويتماشى مع الإجماع العربي والدولي" تبقى مطلباً ثابتاً للإمارات رغم ادعاءات المغرضين والمتاجرين بقضية الشعب الفلسطيني، حيث وصف سموه موقف الامارات تجاه دعم الشعب الفلسطيني وتحقيق حل الدولتين بالموقف الراسخ.
كانت كلمة الامارات أيضاً عاكسة كذلك لعمق الايمان بالمبادىء والقيم الانسانية والحضارية، حيث قال سمو وزير الخارجية والتعاون الدولي "إن هذه الأوقات الحرجة تتطلب من الدول وضع خلافاتها جانباً وتعزيز التعاون بينها؛ لتطوير وتوفير اللقاحات والعلاج لكافة الشعوب".
عندما تسعى دولة الامارات، بكل ثقلها ودورها ومكانتها وطموحاتها وتطلعاتها لبناء عالم متسامح خال من الصراعات والأزمات ومجتمعات آمنة تؤمن بالتعايش والحوار، تسعى للترشح لشغل مقعد غير دائم في مجلس الأمن الدولي للفترة 2022-2023؛ فإن هذا الجهد يصبح ـ بإذن الله ـ قيمة مضافة مهمة تصب في مصلحة الأمن والاستقرار الدوليين.