استفاض المحللون والخبراء والمتخصصون طيلة الأشهر الماضية في التنبؤ بأوضاع العالم بعد تجاوز أزمة تفشي وباء "كورونا" (كوفيد _19)، حيث تباينت الآراء واختلفت التحليلات حول هياكل وأنماط القيادة في النظام العالمي الذي سيتشكل بعد الأزمة.
الواقع يقول أن أننا بعيدون ـ حتى الآن ـ عن القول بأن العالم قد طوى صفحة أزمة "كورونا"، وبالتالي فإن تداعياتها على العلاقات الدولية لم تزل قيد التشكل، ولكن اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت مناسبة لإظهار بعض التصورات التي عكستها كلمات وخُطب القادة والرؤساء، فالصين لم تزل تتمسك بحرصها وحذرها في الحديث عن مسألة القيادة العالمية، ولكنها تتمسك كذلك بطرح رؤيتها الاستراتيجية خصوصاً إذا تعلق الأمر بقضايا وموضوعات اقتصادية، حيث أكد الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في كلمته، إن على العالم أن يقول "لا للأحادية والحمائية"، مضيفا أن منظمة التجارة العالمية يجب أن تبقى حجر الأساس للتجارة العالمية، وهي مسألة تعكس وجهة نظر بكين في ضرورة الابقاء على العولمة في شقها الاقتصادي على الأقل، كما بدت الصين مدافعة قوية عن موقفها في مواجهة اتهامات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لها بنشر الفيروس"، وذهب مندوب الصين لدى الأمم المتحدة السفير تشانغ جون لاتهام الولايات المتحدة بنشر "فيروس سياسي" في الجمعية العامة للأمم المتحدة، معتبراً أن هناك "جلبة أمريكية لا تنسجم مع أجواء الجمعية العامة"، وأن الرئيس ترامب "يستغل منصة الأمم المتحدة للتسبب بالمواجهة وإضعاف المنظمة الأممية"، معلناً أن الصين سعت إلى تقديم المساعدة للولايات المتحدة "محاولين مساعدتها في إنقاذ الأرواح ومساعدة هؤلاء الذين يعانون وضعا ميؤوسا منه"، ولكن "الفشل التام" حال دون انقاذ الأرواح في بلد نظاماً صحياً هو الأكثر تقدماً مع تكنولوجيا هي الأكثر كفاءة"!
اللافت أن المندوب الصيني اختتم تصريحه بنصيحة للنخب السياسية الأمريكية قائلاً "كي يكون المرء كبيراً عليه ان يتصرف كقائد".
لم يكن هذا السجال الوحيد الذي يعكس تداعيات مابعد "كورونا"، فالرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، قد ناطح الحليف الأمريكي دبلوماسياً بشكل يحمل علامات تحد حين قال أمام الأمم المتحدة إن فرنسا والمانيا وبريطانيا لن "تتنازل" عن رفضها دعم إعادة العمل بالعقوبات الأممية على ايران بعدما بادرت الولايات المتحدة الى ذلك.كما أعلن الرئيس الفرنسي أمام الأمم المتحدة أن "العالم في وضعه الراهن لا يمكن اختزاله بالخصومة بين الصين والولايات المتحدة"، داعيا المجتمع الدولي الى "بناء تحالفات جديدة".وقال ماكرون "لسنا محكومين جماعياً بأن نكون في شكل ما مجرد شهود على عجز جماعي"، ودعا ماكرون أوروبا خصوصا الى "تحمل مسؤوليتها كاملة" و"عدم السقوط".
ربما تبدو الكلمات والرؤى متكررة بعض الشىء، على الأقل بالنسبة للمتخصصين والباحثين، وربما تحمل تلك الكلمات أحلاماً وطموحات لتيار سياسي عالمي يحلم بالتعددية القطبية أو بعالم خال من هيمنة القطب الواحد أو صراعات الثنائية القطبية، ولكن تحليل مابين السطور يشير إلى قمة جبل جليد لا تزال قيد التشكل في عالم مابعد "كورونا"، وخصوصاً على صعيد العلاقات الأمريكية ـ الأوروبية، التي تعاني شروخاً عميقة بسبب تباين الرؤى والمصالح الاستراتيجية، بحيث يصعب القول أن مظلة حلف الأطلسي قادرة على الصمود وجمع الشركاء في ظل أهداف واحدة أو حتى قريبة من التوافق، بل بات من الصعب الحديث عن تحديات وقواسم مشتركة بين أعضاء الحلف ليس فقط بالنظر للخلافات الكبيرة بين بعض أعضائه لحد بلغ احتمالات المواجهة العسكرية (تركيا وكل من فرنسا واليونان) ولكن أيضاً في ظل الانسلاخ الأمريكي التدريجي من الالتزامات والمسؤوليات المترتبة على عضوية الحلف.
التحالفات الجديدة التي يقصدها الرئيس ماكرون ليست بالتأكيد تحالفات عسكرية، بل هي تحالفات مصالح تنبع من مصالح الشعوب الأوروبية التي استقبلت المساعدات الصينية خلال ذروة أزمة "كورونا" في حين غاب الحليف الأمريكي تماماً عن مشهد الدعم والمساعدة ليس فقط بسبب حجم وآثار تفشي الجائحة في الداخل الأمريكي، ولكن أيضاً بسبب الرؤية الأحادية التي تطغي على الدبلوماسية الأمريكية في الوقت الراهن.
الحقيقة أن كل هذه الرؤى والتصورات الاستراتيجية لا تزال تتفاعل وتتشكل وفقاً للظروف والمتغيرات، وهي أيضاً مرهونة بما ستسفر عنه نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية في نوفمبر المقبل، بمعنى أن فوز الرئيس دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية سيغذي هذه الرؤى والتصورات بحكم استمرار نهج السياسة الخارجية الأمريكية، بينما قد يؤدي فوز الديمقراطيين إلى مراجعات لكل هذه الطروحات التي يتنباها حلفاء الولايات المتحدة ومنافسوها على حد سواء، بناء على أي تغييرات ستطرأ حتماً على نهج الدبلوماسية الأمريكية حال وصول المرشح الديمقراطي للبيت الأبيض.