يصعب وصف مايحدث في العالم حالياً حول اللقاحات الخاصة بفيروس "كورونا" المستجد سوى بأنه صراع عالمي على النفوذ وتعزيز المكانة الدولية في عالم مابعد "كورونا"، فبدلاً من التعاون والتضامن بين مختلف الدول من أجل تأمين اللقاح لأكبر شريحة ممكنة من البشر والتصدي لهذا الخطر العالمي العابر للقارات والحدود، تحتدم الصراعات بين الشركات المنتجة للقاحات، حتى أن القادة والسياسيين تدخلوا بتصريحات قوية دفاعاً عن لقاحات تنتجها شركات تابعة لدولهم، حيث تدخل رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، مؤخراً، للدفاع عن لقاح "أوكسفورد- أسترازينيكا" بعد أن قررت دول أوروبية تعليق استخدام اللقاح بسبب تقارير عن جلطات فتاكة، مؤكدا أن "اللقاح آمن وفعال".
اللقاحات ضد فيروس "كورونا" باتت المظهر الأبرز لمعركة النفوذ العالمي بين الدول الكبرى، حيث تتصارع شركات تابعة للولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا، واصبح انتاج اللقاح وتوزيعه على عدد أكبر من الدول، بمنزلة أحد مؤشرات النفوذ والقوة، وسباقاً محتدماً تخوضه دول كبرى عدة، بل بات السباق على توزيع اللقاح وبيعه شبيهاً بسباقات التسلح وتصدير الأسلحة لمختلف دول العالم باعتبار ذلك دليل على القوة والهيبة والثقة بالتقدم التكنولوجي لهذه الدولة أو تلك.
روسيا ـ على سبيل المثال ـ اختارت اسم "سبوتنيك V" ( سبوتنيك 1 هو أول قمر صناعي سوفيتي اطلق للفضاء عام 1957) للقاح الذي تنتجه وهو اسم ينطوي على دلالة لها علاقة قوية بالمكانة والنفوذ العالميين، وأكدت أنها لا تشارك في السباقات السياسية حول اللقاحات، وأن لقاحها حصل على ثقة 50 دولة في العالم ما يجعله الثاني عالمياً في هذا المجال، وأن هناك لقاحات روسية أخرى في طريقها للاستخدام.
نجحت الصين أيضاً في توزيع لقاحها "سينو فارم" بشكل كبير، حيث سعت منذ بداية الأزمة إلى تقديم نفسها باعتبارها دولة كبرى مسؤولة في إطار مابات يعرف بدبلوماسية اللقاحات، وكذلك فعلت روسيا، التي اخترقت الصف الأوروبي بالحصول على اعتراف ثلاث دول أوروبية بلقاحها، بينما تحاول الشركات الغربية التشكيك في اللقاحات الأخرى بطرق وأنماط مختلفة.
صراع اللقاحات ليس مفاجئاً ـ على الأقل بالنسبة للمراقبين ـ حيث توقعت مجلة "الايكونوميست" منذ أشهر أن يتحول الحصول على اللقاح او توزيعه على الدول إلى أحد مجالات التنافس والصراع الحاد بين الدول، ولكن تكرار ماحدث في بدايات الأزمة من ممارسات غير أخلاقية للحصول على مواد التعقيم والتجهيزات الطبية، يشير إلى أزمة أخلاق عميقة تعصف بالنظام العالمي، والأمر لم يقتصر على محاولات اثبات كفاءة اللقاحات الخاصة ببعض الدول والطعن في الاخرين، بل ينتد ليشمل إجراءات الحمائية التي اتخذتها بعض الدول من اجل الاستحواذ على نصيب الأسد من اللقاحات على حساب دول أخرى!
اللافت أن الحساسيات السياسية انعكست على اللقاحات، ففي أوروبا ـ على سبيل المثال ـ تفجر خلاف بين شركة "أسترازينيكا" البريطانية والاتحاد الأوروبي بعد إبلاغ الأخير بتقليص كميات اللقاحات المتفق على بيعها بنسبة 60%، مادفع قيادة الاتحاد الأوروبي للحديث عن منافسة غير نزيهة للحصول على اللقاحات، والادعاء بأن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يحاول أن يستعمل إشكالية اللقاح للتبرير بأنه كان على حق بالخروج من الاتحاد الأوروبي.
الغريب أن العالم يدرك أن فاعلية عملية التلقيح عالمياً لن تفلح ما لم يتم القضاء على مصدر الوباء أو تحييده على الأقل، ما يتطلب بدوره جهداً تعاونياً جماعياً، ولكن الحاصل أن اللقاح تحول إلى مجال لاستعراض القوة والمكانة ومستويات الرفاهية بين الدول والشعوب، في حين تحول انتاج اللقاح والاقبال عليه إلى مؤشر للقوة والتقدم والنفوذ العلمي، أي بات اللقاح ساحة للصراع الجيوسياسي الذي برزت فيه دول مثل الصين وروسيا بينما طغى تفشى الوباء في الولايات المتحدة والفشل في السيطرة عليه على النجاح في انتاج اللقاح المضاد والاقبال الكبير عليه.
صراع اللقاحات لم يقتصر على من ينتجه أولاً، أو على من يستطيع كسب ثقة أكبر عدد من الدول وتوسيع نطاق انتشاره، بل تمحور كذلك على أسعار اللقاح وظروف التخزين والنقل والاستخدام ومدى تناسبها مع مختلف الدول. ورغم حرب الشائعات والتضليل والتشكيك في بعض اللقاحات ومخاطرها وآثارها الجانبية المحتملة، فإن الجغرافيا السياسية والتحالفات التقليدية قد لعبت دوراً في رسم شبكة التعاون في شراء اللقاحات، ولكن القوى الدولية المنافسة استطاعت اختراق هذه الشبكة في مواضع كثيرة والفوز بثقة حلفاء استراتيجيين لدول كبرى أخرى، والتعاون معها في توريد اللقاحات، ما يعني أن هناك شبكات جديدة للتحالفات تلوح في الأفق على قاعدة التعاون العلمي والتقني والصحي.
أحد تفسيرات هذا الصراع أن فاعلية حملات التلقيح ونتائجها باتت تنطوي على مردود اقتصادي كبير، بمعنى أن التصدي لتفشي الوباء والعودة إلى الحياة الطبيعية يعني استئناف الأنشطة الاقتصادية ووقف نزيف الخسائر الناجمة عن الوباء وخطط الاغلاق العام، وهذا صحيح تماماً، ولكن الحقائق تقول أن العودة إلى ماقبل مرحلة "كورونا" ومردودها الاقتصادي والتجاري والاستثماري، يبقى مرهوناً بتعافى العالم اجمع من الوباء.