يعلم الرئيس الأميركي جو بايدن من قبل انتخابه أن أحد أخطر التحديات التي تواجه الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط تنبع من انتشار الميلشيات الطائفية والارهابية التي يحظى معظمها برعاية وتمويل بعض دول المنطقة، التي تستغل هذه الميلشيات وتوظيفها كأذرع مسلحة تعمل على تحقيق أهدافها ومصالحها الاستراتيجية.
والمؤكد أن نظرة واحدة على خارطة الشرق الأوسط، ستكشف حجم تفشي الميلشيات وكيف أصبحت وباء عضالاً ينخر في جسد هذه المنطقة المثقلة بالأزمات والمشكلات الأمنية والتنموية والمذهبية والاقتصادية والسياسية، باختصار ليس هناك مشكلة في العالم لا تجد لها وجود أو مظاهر واضحة في هذه المنطقة، وكأنها أصبحت نموذجاً مصغراً لمعاناة العالم أجمع؛ ومن هذه الميلشيات نجد الأذرع الموالية لملالي إيران وتنتشر في دول عربية عدة، منها لبنان حيث نفوذ "حزب الله" الذي يجاهر ليل نهار بتبعيته الأيديولوجية وموالاته للمرشد الايراني الأعلى، ومنها اليمن، حيث جماعة "انصار الله" الحوثية التي لا يخفي على أحد أن تمويلها وتسليحها يتم من خلال خزانة وترسانات الحرس الثوري الايراني، أما في العراق فحدث ولا حرج، حيث الانتشار الفسيفسائي اللافت للميلشيات والتنظيمات والجماعات التي يدعمها ويمولها ويسلحها الحرس الثوري، وتمثل أحد مصادر تقويض أمن واستقرار هذا البلد العربي العريق بين الفينة والأخرى.
في ضوء ماسبق، يفترض أن يكون استئصال جذور هذه الميلشيات والتصدي لخطرها وتجفيف منابع تمويلها وتسليحها أحد أهم أولويات الإدارة الأميركية الجديدة، أو على الأقل دعم الدول الاقليمية التي تسعى لمواجهة هذه الميلشيات ومنع خطرها، ولكن ما يحدث الآن في الحالة اليمنية ـ سبيل المثال ـ أن الإدارة الأميركية اتجهت مباشرة عقب تسلمها السلطة إلى منح الكثير من "الجزر" لجماعة الحوثي من دون أن تحصل على مقابل واحد يبرر هذه المنح المجانية، كما لم تلوح ولو مرة واحدة بالعصا في حال لم تمثل هذه الميليشيا المارقة لمساعي الولايات المتحدة بشأن البحث عن السلام وانهاء الحرب في اليمن!
المثير للاستغراب أنه في الوقت الذي تحدثت فيه تقارير اعلامية عن اجتماع عقد بين مسؤولين أمريكيين كبار ومسؤولين من جماعة الحوثي اليمنية في سلطنة عمان، وتحديداً بين المبعوث الأميركي إلى اليمن تيموثي ليندركينج وكبير المفاوضين الحوثيين محمد عبد السلام، تواصل جماعة الحوثي قصف المدن والمواقع الاستراتيجية السعودية بمختلف أنواع الأسلحة دون الأخذ بالاعتبار مدى تأثير ذلك على الجهود الأميركية، ما يدفع للاعتقاد بأن الحوثيين يتلقون تعليمات من ملالي إيران بمواصلة التصعيد للضغط على إدارة الرئيس بايدن لتقديم تنازلات للراعي الرسمي لهذه الجماعة كي تكف عن اعتداءاتها الاستفزازية ضد المملكة العربية السعودية.
الولايات المتحدة من جانبها أشارت على لسان مصدر لم يكشف عن هويته أن اجتماع مسقط أن جزءاً من سياسة "العصا والجزرة" الجديدة التي يتبناها الرئيس بايدن، ولكن الواقع يقول أن هذه السياسة التي بدأت بالغاء قرار الرئيس الأميركي السابق ترامب بتصنيف الحوثيين جماعة ارهابية، يجب أن تخضع للتقييم المرحلي أولاً بأول، للتعرف على مدى استجابة هذه الجماعة لما يقدم لها، وإلا فإن الإشارات الأميركية ستفهم على النقيض من أهدافها، لاسيما في ظل غياب أي تلويح باستخدام القوة لردع هذه الجماعة، أو حتى إعادة إدراجها على قوائم الارهاب طالما أن العقوبات التي أعلنتها وزارة الخزانة الأميركية اثنين من القادة العسكريين الحوثيين المتهمين بجلب أسلحة من إيران وتنظيم هجمات، لم تؤت ثمارها ولم تدفع الحوثي للتهدئة والاستجابة لجهود استعادة الأمن والاستقرار ووقف الاعتداءات.
من المفهوم ـ وفق التجارب والأعراف ـ أن الحوثيين يواصلون ممارساتهم الاستفزازية لتعزيز موقفهم التفاوضي وللحصول على التنازلات التي يريدونها سواء من المملكة أو من الجانب الأميركي، ولكن المؤكد أن السماح باستمرار هذه الممارسات لا يصب في مصلحة الأمن والاستقرار لأن ترك الحبل على الغارب للميلشيات لإملاء إرادتها ومحاولة فرض شروطها على الدول، يمثل تقويضاً خطيراً للقانون والمواثيق الدولية، ويوفر دروساً مجانية يمكن استنساخها من جانب بقية التنظيمات والميليشيات الارهابية المارقة، ما ينذر بتحول الساحة الاقليمية والدولية إلى مشهد فوضوي تصعب السيطرة عليه، أو تنفيذ إرادة المجتمع الدولي بشأن بسط الأمن والاستقرار ونزع فتيل الصراعات والنزاعات والأزمات.
الخلاصة أنه من دون الموائمة والتوازن الدقيق بين "العصا" و "الجزرة" في التعاطي الأميركي ليس فقط مع الميلشيات بل مع مموليها ورعاتها المعروفين، من الصعب الحديث عن فرص تقدم ناهيك عن نجاح أي جهود في هذا الشأن، ففاعلية هذه السياسة تكمن في التوازن الدقيق وإجادة استخدام أي من الأداتين في التوقيت المناسب وبالحجم الذي يحقق الهدف المرجو، وبخلاف ذلك تصبح العصا المترددة أو الحذرة ذات وقع معاكس تماماً ينذر باستمرار الفوضى وعدم الاستقرار.