انتقل الحديث عن اللقاحات التي تنتجها الدول الكبرى في الآونة الأخيرة من خانة الجهود المتعلقة بالتصدي لوباء "كورونا"المستجد، إلى قاموس المفردات السياسية والاستراتيجية وبات الحديث عن هذه اللقاحات مرتبطًا بنفوذ الدول المنتجة، واعتباره مظهرًا من مظاهر القوة الناعمة لهذه الدول. ولاشك أن النقاش حول مدى صحة فكرة الربط بين اللقاحات والقوة، هي فكرة تؤيدها الممارسات السائدة، سواء تلك الخاصة بتوزيع اللقاحات أو بدفاع القادة والساسة عنها دفاعًا مستميتًا يرتبط بالقومية والكرامة الوطنية أكثر من ارتباطه بالمعايير العلمية والصحية، فضلًا عن أن خارطة توزيع اللقاحات وإدارة المخزون والمتاح لدى الدول والمؤسسات جميعها علامات تشير إلى دلائل جيوسياسية أكثر من أي شىء آخر، وهذا واقع ولكن يجب النظر إليه بحكمة وعقلانية.
ولعل اللقاح الروسي يمثل نموذجًا جيدًا لفهم البعد السياسي في المسألة، والأمر في ذلك لم يقتصر على الانقسام الحاصل بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول استخدام اللقاح الروسي، بل إن هناك من داخل الدول التي كانت تدور في السابق في فلك موسكو إبان حقبة الحرب الباردة، من لا يتردد في اتهام روسيا باستخدام اللقاح كأداة لاستعادة نفوذها السابق.
وبين مختلف وجهات النظر، يبدو الأمر بالفعل له علاقة وثيقة بقوة الدول ونفوذها، ولعل اختيار مسمى "سبوتنيك"بكل ماينطوي عليه من دلالة رمزية في التنافس القطبي واثبات القوة إبان مرحلة الحرب الباردة، يمثل بحد ذاته النظرة والأهمية التي توليها الدولة الروسية للقاح، والأمر في ذلك لا يقتصر على روسيا فقط بل يشمل بريطانيا والصين والولايات المتحدة وكل الدول التي تسعى جاهدة لاثبات الذات في هذا المعترك العلمي، انطلاقًا من أن العلم يمثل أحد مظاهر ودلائل القوة الناعمة للدول، ولا غضاضة في ذلك لأن العلاقة بين العلم والقوة ليست أمرًا عابرًا في السياسة والعلاقات الدولية، ولكن الجديد ربما يتمثل في آليات التوظيف والاستخدام وساحات هذا الصراع العلمي، فالمسألة هنا لم تعد استعراضًا للتفوق العلمي في الفضاء على سبيل المثال، أو في إطلاق الصواريخ واكتشاف المجرات، بل تمضي على أرض دول أخرى، حيث يبدو العامل الجيوسياسي ظاهرًا، وهو مايدفع البعض لانتقاد مايعتبرونه توظيفًا سياسيًا للوباء واللقاحات.
من وجهة نظري، فإن هذا التوظيف قد طفا على السطح منذ بدايات الأزمة ولم ينتظر حتى ظهور اللقاحات، فالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان يسمي "كورونا"بالفيروس الصيني في موقف له دوافع استراتيجية تتعلق بالصورة الذهنية والنيل من سمعة الصين ومكانتها في إطار التنافس الشرس بين القطبين على مقعد قيادة النظام العالمي في مرحلة مابعد "كورونا"، ولكن "حرب اللقاحات"ربما تبدو أكثر دلالة على البعد السياسي في المسألة برمتها، حتى أن وزير الخارجية السلوفاكي إيفان كوركوك قد اختلف مع رئيس وزرائه الذي رحب بتلقي بلاده دفعة من اللقاح الروسي معتبرًا أن المسألة لا علاقة لها بالعوامل الجيوسياسية، في حين وصف وزير خارجيته اللقاح بأنه "أداة حرب هجينة". والأمر ذاته تكرر في جمهورية التشيك حيث طلب الرئيس ميلوش زيمان، المعروف من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تزويد بلاده باللقاح، فإن وزير الصحة رفض قبول اللقاح الروسي دون موافقة وكالة الأدوية الأوروبية، ما دففع الرئيس إلى مطالبته بالاستقالة.
وفي قراءة خلفيات هذه المواقف المتباينة نجد أن هناك من يعتقد بأن "دبلوماسية اللقاحات"الروسية تستهدف إحداث الوقيعة داخل التكتل الأوروبي، ولكن الواقع يقول أن هناك محدودية في انتاج اللقاحات من شركات تابعة لدول أخرى بجانب ارتباك ومشاكل في التوزيع لضخامة الطلب وتزامنه بشكل غير مسبوق، وبالتالي يبدو البحث عن مخارج وحلول لهكذا وضع مسألة تتجاوز نظرية المؤامرة بغض النظر عن وجودها من عدمه، فأوروبا تعاني جراء تباطؤ وتيرة برنامج التطعيم، وهناك خلافات وجدل حول بعض اللقاحات، ومن يحصل عليها أولًا.
المسألة، برأيي، يجب أن ينظر إليها من زاوية تعلي الجوانب الانسانية، فسلوفاكيا وتشيكيا تشهدان في الفترة الأخيرة أسوأ معدلي وفيات في العالم نسبة إلى عدد السكان منذ أسابيع، بحسب إحصاءات "وكالة الصحافة الفرنسية"استنادًا إلى بيانات رسمية، ومستشفياتها وصلت إلى قدرتها الاستيعابية القصوى، وبالتالي يصبح الحديث عن الشق السياسي في اللقاحات رفاهية لا توفرها مثل هذه الظروف الانسانية الصعبة للغاية.
صحيح أن الدفاع عن بعض اللقاحات قد أخذ بعدًا قوميًا، فيما اكتسى توزيع بعضها الآخر بجانب جيوسياسي، ولكن النصف الملآن من الكوب أن هناك من يحصل على اللقاح بما يقلل من فرص المرض والمعاناة عالميًا، فالأزمة التي غاب عنها الوجه الانساني والاخلاقي منذ بدايتها لا تزال تؤكد أن الحديث عن المبادىء الانسانية في واد، وسلوكيات العالم في واد آخر تمامًا.
البشرية الآن في موقف يتطلب تضامنًا وتكاتفًا قويًا للخروج من الأزمة، التي يجب أن ينجو منها الجميع، إذا أراد العالم العودة فعليًا إلى ماقبل "كورونا"، وبالتالي فالحديث عن القوة الناعمة و الاعتبارات الجيوسياسية رفاهية لا تمتلكها الكثير من الدول والشعوب، ومثل هذه الأمور لا يجب أن تعوق الحصول على اللقاح إعمالًا لقاعدة أن اللقاح الأفضل هو اللقاح المتاح الآن وليس غدا.