من الواضح أن سؤال المفاوضات الجارية في فيينا حول إحياء الاتفاق النووي الموقع بين نظام الملالي الايراني ومجموعة "5+1" لم يعد يتمحور حول جديتها بل حول سيناريو نهايتها، إذ تؤكد معظم المؤشرات أن الأمور تمضي كما خُطط لها، وأن أي فشل سيكون بسبب تشدد الطرف الايراني تحديداً، لأن إدارة الرئيس بايدن تبدو على استعداد لتقديم تنازلات كبرى مقابل التوصل إلى تفاهم مع عباس عراقجي كبير المفاوضين الايرانيين في فيينا، والذي قال مؤخراً إن الولايات المتحدة عبرت عن استعدادها لرفع كثير من العقوبات التي فرضتها على إيران خلال محادثات فيينا النووية لكن طهران تطالب بالمزيد، مشيراً إلى أن المباحثات ستستمر "حتى تُلبى كل مطالبنا".
عراقجي الذي بدا في تصريحه هذا واثقاً أكثر من اللازم في الحصول على مايريد، يعكس استراتيجية التفاوض الايرانية التي سبق أن نجحت في انتزاع مايريده الملالي عام 2015، من خلال مفاوضات ماراثونية انتهت بموافقة ممثلي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما على مايريده الملالي، وهو مايراهن الملالي على إعادة انتاجه مجدداً في فيينا، حتى أن الرئيس بايدن نفسه ليس واثقاً من امكانية استئناف الملالي التزاماتهم الواردة في الاتفاق النووي، حيث يقر بأنهم جادون في التفاوض، لكنه يقول "لكن أي مدى وما هم على استعداد لفعله أمر مختلف. لكننا ما زلنا نتحاور"؛ ما يعني أننا أمام سيناريو مكرر للمفاوضات مع إيران، والأرجح أن تنتهي إلى حصولهم على مايريدون لأن سقف تفاوضهم هو بالأساس أعلى من المفترض بمراحل.
المؤشرات إذن ترجح التوصل إلى اتفاق يعيد إحياء اتفاق عام 2015 بذات الشروط، ويصبح السؤال الحتمي هو: ماذا بعد؟ أو ماهي الخطوة التالية؟ لأن إحياء الاتفاق ليس انجازاً بالمعنى المفهوم، ولكنه خطوة تراها إدارة الرئيس بايدن مقدمة لبدء خطوات أخرى بشأن تطور الاتفاق ذاته ليشمل قضايا وموضوعات أخرى، وهو أمر مشكوك في تحققه في غضون الولاية الرئاسية الأولى للرئيس بايدن على الأقل.
بالنسبة لإسرائيل، يبدو التوصل إلى اتفاق حول إحياء الاتفاق النووي بمنزلة أزمة حقيقية، حتى أن وزير المخارات ايلي كوهين قال إن الحرب مع طهران ستلي حتماً إحياء هذا الاتفاق، وكرر كوهين موقف إسرائيل بأنها لا تعتبر أنها مقيدة بالجهود الدبلوماسية في هذا الصدد وقال "اتفاق سيء سيدفع المنطقة نحو الحرب بسرعة"، وأضاف في تصريحات لوكالة رويترز "أي طرف يسعى لمنافع قصيرة الأمد يجب أن يكون واعيا بالمدى الطويل… لن تسمح إسرائيل لإيران بالحصول على أسلحة نووية. إيران ليس لديها حصانة في أي مكان. طائراتنا يمكنها أن تصل لأي موقع في الشرق الأوسط وبالطبع لإيران".
قناعتي أن هذه التصريحات هي موجهة بالأساس من أجل احداث أقصى ضغط ممكن على أجواء مفاوضات فيينا، وبالأخص على الجانبين، الايراني والأمريكي، الأول لتخفيف شروط التفاوض، والثاني لتشديد هذه الشروط، وهما هدفان متباينان، ومن الصعب تحققهما معاً لأسباب واعتبارات عدة؛ فنظام الملالي الايراني انتحاري الهوى في أحيان كثيرة، ولذا لا يمكن تطبيق المعايير التقليدية على سلوكه السياسي، والتفاوضي على وجه الخصوص، أما إدارة الرئيس بايدن فتسعى بشتى الطرق لتحقيق اختراق نوعي في واحد من الملفات التي وضعتها في صدارة أولوياتها، وبالتالي يصعب القول بأن هناك من يصغى إلى تهديدات اسرائيل بالحرب في الوقت الراهن، حيث ينشغل الجميع بالبحث عن مخارج من المأزق الراهن في فيينا.
الأهم من ذلك هو السؤال البديهي بشان مدى استطاعة اسرائيل تجاوز حدود علاقاتها مع الحلف الأمريكي وشن حرب ضد نظام الملالي بمعزل عن إرادة البيت الأبيض؟ الحقيقة أن محاولة التوصل إلى جواب ترتبط بشقين أولهما يتعلق بالجانب العملياتي العسكري من أي خطة هجوم مفترضة على منشآت إيران النووية، وثانيهما يتعلق بالبيئة السياسية للقرار العسكري، وكلاهما يشيران إلى أمور معقدة، فسؤال المليون دولار في مثل هذا السيناريو التخيلي لا يتعلق بنتيجة أي ضربة عسكرية اسرائيلية ضد "النووي" الايراني فقط، بل يرتبط بالأساس بدراسة مابعد هذه الضربة، ومحاولة استنتاج أو فهم ردة فعل الملالي على هكذا هجوم، ناهيك عن موقف الولايات المتحدة التي لن تجد أمامها مناصاً من دعم الحليف الاستراتيجي الاسرائيلي وعدم تركه بمفرده في أي مواجهة عسكرية محتملة.
باعتقادي أن هناك جوانب فنية تغري المخططين الاسرائيليين بامكانية التوجه نحو خطة الهجوم وتكرار سيناريو مفاعل "تموز" العراقي، فهناك واقع جيواستراتيجي اقليمي جديد قد يسهم في التغلب على بعض العقبات اللوجستية والعملياتية التي كانت تعرقل خطة الهجوم على المنشآت النووية الايرانية في السابق، ولكن الحقيقة أن وجود منشآت النووي الايراني في مناطق مختلفة، وأن غياب اليقين المعلوماتي الكامل بأن المُعلن من هذه المنشآت الحقيقي، وأنه لا منشآت سرية خفية عن الأعين، أمور تحد من التوقعات بشأن فاعلية "الضربة"، واعتقد أن هذه هي الصعوبة الأهم في الأمر، وليس فقط سيناريوهات مابعد الهجوم.
وكلي يقين بأن إسرائيل لديها قلق حقيقي وليس مفتعلاً وليس مبالغاً به بشأن فوز الملالي بجولة جديدة من مفاوضات البرنامج النووي، فالكل في منطقتنا يدرك تماماً ماذا سيكون بعدها، حيث تنتفخ شرايين هذا النظام بالأموال والأريحية السياسية ويمضي في استكمال خططه التوسعية، بحيث يصعب بعدها التوصل إلى تفاهم حول سحب ميلشياته من سوريا واليمن والعراق وغيرها، واعتقد أيضاً أن دول مجلس التعاون هي أكثر الأطراف تفهماً لسيكولوجية نظام الملالي وبالتالي بإمكان هذه الدول فهم أسباب القلق الاسرائيلي، لأنها تعيش بيئة علاقات مشابهة مع الملالي.
الحقيقة أن سيناريو مابعد إحياء الاتفاق يبدو قاتماً للغاية لأنه يعني عودة الزمن للوراء، وفشل الإدارة الأمريكية في الاستفادة من دروس التجارب السابقة، وبالتالي فكل الاحتمالات تبقى واردة لأنه لا أحد يستطيع العيش تحت التهديد ولا انتظار المجهول، وبالتالي فحسابات الربح والخسارة التي يجريها الاستراتيجيون لن تكون دقيقة تماماً في معطياتها ولانتائجها، ففي ظروف الضغوط الوجودية المتصاعدة، تتراجع قليلاً حسابات العقل والمنطق لمصلحة الدفاع عن الذات وسعي القادة لطمأنة شعوبهم بغض النظر عن أي حسابات أخرى، وهذا مايجب على القوى الدولية أن تدركه جيداً، فلا تترك مصير منطقة الشرق الأوسط لهوى الملالي، بل ينبغي أخذ هواجس ومخاوف بقية الأطراف الاقليمية بالاعتبار، ومن ثم العمل على ايجاد إطار تفاوض أشمل سواء من حيث طبيعة قضاياه أو أطرافه، لأنه من دون ذلك سيبقى الشرق الأوسط رهناً للمجهول.