كان يوسف العتيبة سفير دولة الإمارات لدى الولايات المتحدة دقيقاً تماماً حين وصف ما تشهده العلاقات بين أبوظبي وواشنطن باختبار تحمل، حيث قال العتيبة خلال فعاليات مؤتمر تكنولوجيا الدفاع في أبوظبي "مثل أي علاقة. فيها أيام قوية، العلاقة فيها صحية جدا، وأيام العلاقة فيها موضع تساؤل، واليوم نحن نمر باختبار تحمل، لكني أثق أننا سنجتازه ونصل إلى وضع أفضل"، وقناعتي أن الجزء الأول من هذا التصريح المهم، والخاص بتوصيف أجواء العلاقات وتشخيصه (اختبار تحمل) لا ينطبق فقط على دولة الإمارات بل ينطبق كذلك على بعض دول مجلس التعاون الأخرى إن لم يكن جميعها، أما الشق الخاص بالثقة في تجاوز هذه الأجواء والوصول إلى وضع أفضل، فمن الطبيعي أن مايمكن توقعه بالنسبة لدولة الإمارات قد يختلف نسبياً عن ظروف واتجاهات وأهداف السياسة الخارجية للدول الأخرى، وبالتالي يصعب تعميم الاستنتاج على الجميع.
البديهي أن تشخيص الداء مقدمة ضرورية لتحديد الدواء، ودول مجلس التعاون، أو معظمها، يدرك ان العلاقات مع الشريك الإستراتيجي الأمريكي تتعرض لضغوط ناجمة عن ظروف دولية معقدة بعضها يرتبط بتداعيات تفشي جائحة "كورونا"، وبعضها الآخر يرتبط بالعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، بينما يتصل بعض هذه الظروف بمتغيرات أخرى مثل التحول الحاصل في أولويات الاهتمام الأمريكي وما يرتبط بذلك من إنحسار للالتزام الأمريكي بأمن الشركاء في منطقة الخليج العربي، ناهيك عن تبانيات أخرى بشأن الحرب في اليمن والسياسة الأمريكية تجاه إيران والشروط الأمريكية الخاصة بمبيعات الأسلحة المتطورة وغيرها.
إحدى إشكاليات الولايات المتحدة المستمرة في إدارة العلاقات مع دول مجلس التعاون تكمن في الرغبة في النظر للمصالح من طرف واحد (الأمريكي) من دون مراعاة حساسية موقف الطرف الآخر (الخليجي) وهذا ماحدث ـ على سبيل المثال ـ في مسألة زيادة الصادرات النفطية لتعويض نقص محتمل لصادرات النفط الروسي بسبب العقوبات الغربية، كون وجهة النظر الخليجية تجاه هذه المسألة لا تتعلق باصطفاف لمصلحة طرف معين في الأزمة الأوكرانية، بل ترتهن بالأساس لإلتزامات رسمية للمنتجين داخل تكتل "أوبك+"، ناهيك عن ضرورة مراعاة مصالح إستراتيجية ضخمة ويصعب التفريط فيها تربط الشركاء الخليجيين مع قوى دولية أخرى مثل روسيا والصين.
للموضوعية، لا يمكن القول بأن العلاقات بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون تمر بمرحلة توتر، فالواقع يشير إلى أنها تشهد مخاضاً صعباً يؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات المشتركة، فلا يمكن إنكار التحولات الحاصلة في سياسات دول مجلس التعاون ولا في رؤيتها للعالم ولا أسلوب إدارتها لعلاقاتها الدولية، وبالمقابل لا يمكن نكران الحقيقة القائلة بأن مايحدث على صعيد العلاقات التي تتكىء على موروث او رصيد تاريخي معتبر، ليس سوى نتاجاً لما وصفته إحدى وسائل الإعلام الغربية بالإهمال الأمريكي للشرق الأوسط بشكل عام؛ إذ لا يمكن إنكار التراجع الحاصل في متانة التحالف الأمريكي ـ الخليجي منذ الاتفاق النووي الموقع مع إيران عام 2015، والذي خلّف انطباعاً عميقاً بعدم إهتمام واشنطن بمخاوف حلفائها الخليجيين.
يجب الإنتباه إلى أن الولايات المتحدة لم تستمتع لوجهات نظر شركائها منذ عام 2015، بل إن المفاوضات الجارية حالياً لإحياء الاتفاق النووي تستنسخ الأخطاء ذاتها، وتتجاهل عوامل القلق والتهديد التي يستشعرها حلفاء واشنطن الخليجيين علاوة على إسرائيل أيضاَ، ويحضى بالمصالح الأمنية الأساسية لهذه الدول، ناهيك عن أن دول "التعاون" تتحمل فاتورة ضخمة جراء أخطاء السياسة الخارجية الأمريكية في العقد الأخير، ابتداء من الفوضى والإضطرابات التي شهدتها دول عربية عدة، ومروراً بسوء التقدير الأمريكي في إدارة الأوضاع بدول مثل ليبيا وسوريا والعراق وليبيا ولبنان، ما تسبب في فراغ قيادي شغلته قوى إقليمية على حساب الأمن القومي العربي والخليجي، وبالتالي فإن التوجه نحو بناء شراكات دولية موازية، وليست بديلة ـ للولايات المتحدة يصبح إستجابة طبيعية للسلوك الأمريكي، الذي تسرع بشكل لافت وقفز إلى إستنتاجات غير دقيقة بشأن تراجع أهمية منطقة الخليج العربي كمصدر للطاقة التقليدية، سواء بسبب الطفرة في إنتاج الوقود الأحفوري الأمريكي أو بسبب تنامي التوجه العالمي نحو طاقات بديلة مضحياً بإرث تاريخي من التحالف العميق بين واشنطن ودول المنطقة.
الحاصل الآن أن علاقات الجانبين، الخليج (وإسرائيل أيضاً) والولايات المتحدة سيضاف إليها ـ على الأرجح ـ متغير جديد خلال فترة وجيزة سيفاقم هوة الشقاق، وهو التفاهمات أو الصفقة الخاصة بإحياء الاتفاق النووي الموقع مع إيران، ما يعني منح طهران مساحة جديدة للمناورة والتمدد وممارسة الضغوط على جوارها الاقليمي، والأمر لم يعد يقتصر على ذلك؛ فبعد نحو 2 سنوات من الإتفاق الأول لم يعد التهديد كسابقه، بل أضيف إليه وقوف طهران على عتبة امتلاك "القنبلة" بحسب جميع التقارير الغربية، فضلاً عن مراكمة ترسانات من الصواريخ والمسيرّات، التي تنشر الفوضى في مختلف أرجاء منطقة الشرق الأوسط.
من وجهة نظري فإن الوضع الراهن ينطوي على تحد وفرصة للشركاء في الخليج والولايات المتحدة في آن واحد معاً، حيث يمكن إستعادة زخم الشراكة واثبات قوة التحالف ببناء إستراتيجية دفاعية جماعية تشارك فيها إسرائيل، ويمكن في هذا الإطار تفعيل مقترح دولة الإمارات ببناء "درع" حماية إقليمي ضد الطائرات المسيرّة التي تهدد جميع الدول المناوئة للمخطط التوسعي الإيراني، فضلاً عن أن هذا المقترح يمثل خطوة إستباقية لوقوع هذه الأسلحة بين أيدي تنظيمات الإرهاب، وهنا يبدو الوضع الإقليمي الراهن ـ بغض النظر عن التوصل لتفاهمات بشأن الإتفاق النووي الايراني من عدمه ـ فرصة ثمينة لإعادة التموضع الاستراتيجي الأمريكي وتصحيح الأخطاء وإثبات صحة ما يردده مسؤولو إدارة الرئيس بايدن بشأن عودة واشنطن كحليف موثوق به، وإظهار التزامها بأمن حلفائها الشرق أوسطيين بشكل عملي، وإلا فإن كل مايتردد وما تم استثماره في هذه الشراكة التاريخية سيصبح هباء منثوراً.
لا خلاف على أن الولايات المتحدة تمتلك أفضلية في العلاقات الدفاعية مع دول منطقة الشرق الأوسط، ولكن ينبغي إدراك أن هذا الأمر ليس صكاً على بياض يضمن إستمرار الشراكة بغض النظر عن فاعليتها، فالعالم يمر بمرحلة إنتقالية والعلاقات تتشكل من جديد، وهناك نفوذ روسي وصيني يتوسع ويتمدد مستغلاً أي فراغ إستراتيجي قائم، وبالتالي فالوقت ليس في مصلحة واشنطن، كما انه ليس في مصلحة شركائها الشرق أوسطيين أيضاً في ظل توسع شبكة التهديدات الإيرانية بوتيرة متسارعة للغاية، وعلى الشركاء البحث بجدية عن طريق ثالث لإنقاذ هذه الشراكة وتفعيلها.