يقفز اسم الصين إلى الواجهة في أي نقاشات حول العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ويتكاثر الحديث بشكل خاص حول إحتمالية قيام بكين بدور وساطة لإنهاء هذه الأزمة غير المسبوقة، وقد اكتسب هذا الحديث زخماً بعدما قال مسؤول السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أن على الصين "التوسط في محادثات سلام مستقبلية بين روسيا وأوكرانيا نظراً إلى أن الدول الغربية لا يمكنها لعب هذا الدور"، واصفاً دور الصين بأنه "لا بديل له"، وأنه "لا يمكن للدبلوماسية أن تكون أوروبية أو أمريكية.. الدبلوماسية الصينية لديها دور تلعبه هنا".
المقاربات التي ترشح الصين للعب دور وساطة فاعل تنطلق من علاقات الصين القوية بروسيا، ولكنها لا تنظر كثيراً لتوتر علاقات الصين مع الولايات المتحدة التي يٌنظر لها كقائد للدول الغربية في هذه المواجهة مع روسيا، حيث تتهم الأوساط الرسمية الأمريكية الصين بتقديم دعم ضمني لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، وتحمّل بكين مسؤولية إندلاع هذه الحرب لحلف الأطلسي والولايات المتحدة، كما أنها أمتنعت عن إدانة الهجوم الروسي ولم تعتبره "غزواً" كما يسميه الغرب، ولكن يجب ملاحظة أن الصين قد أمتنعت عن التصويت حين ناقش مجلس الأمن الدولي مشروع قرار بإدانة روسيا في إشارة سياسية ذات دلالة بالغة ومهمة للغاية.
الحقيقة أن الصين تنتهج مساراً حذراً للغاية في هذه الأزمة، فهي ترفض إدانة روسيا التي تربطها بها "صداقة لا حدود لها" على حد وصف بكين، التي تدرك تماماً أن الأعين تترصد مواقفها وتترقب خطواتها بدقة، لذلك يٌلاحظ أن المواقف الصينية تجاه هذه الأزمة تُنسج بعناية بالغة، فهناك تركيز في الخطاب السياسي الصيني على أهمية "التفاوض المباشر" وضرورة تفادي حدوث "أزمة انسانية كبيرة"، ودراسة ردود الأفعال والمواقف لأن الصين التي تتحسس طريق الصعود للتنافس على قمة هرم النظام العالمي تدرك أهمية إستخلاص دروس هذه الأزمة ولاسيما في حال حسمت أمرها بشأن إستعادة جزيرة تايوان، مع ما ينطوي عليه مثل هذا القرار من تفاعلات تقترب كثيراً مما يحدث حالياً في أوكرانيا.
اللافت أن الإتحاد الأوروبي يدعو الصين للدخول على خط الوساطة في وقت يتحدث فيه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عن عدم وجود حل دبلوماسي قريب لأزمة الحرب الأوكرانية، ما يعني أن باريس لا ترى أفقاً واضحاً لنجاح العمل الدبلوماسي، ولكن الواقع يقول أن الدبلوماسية الصينية تمثل في الواقع طوق الإنقاذ للعالم في هذه الأزمة، ولكن الشواهد تؤكد كذلك أن بكين لن تدخل على خط الوساطة من دون دراسة كافية ووافية لفرص نجاحها في هذا الشأن.
واتصور أن الصين قد لا تدخل على خط الوساطة سوى في حالة التأكد من أن دورها سيخدم مصالحها الإستراتيجية أولاً، ثم تقديم العون للحليف الروسي للخروج من مأزق اوكرانياً ثانياً؛ حيث يمكن أن تكون الصين الوسيط القادر على إخراج الوساطة بالشكل الذي يضمن لروسيا الهبوط من فوق قمة الشجرة التي صعدت إليها بإرادتها ومن دون إراقة ماء الوجه، علماً بأن بكين تبقى الطرف الدولي الوحيد الذي يمكن لموسكو الوثوق به في هذه الظروف المعقدة، كما أن الدور الصيني يمكن له كذلك إيجاد سبيل لوقف العقوبات الغربية شريطة أن يتوافق هذا الدور مع رغبة العواصم الغربية في وقف التصعيد وإنهاء الحرب فعلياً، وهي مسألة يشكك بها الكثير من المراقبين الذين يعتقدون أن هذه العواصم ترى في هذه الحرب فرصة ثمينة لإستنزاف قدرات روسيا العسكرية والإقتصادية.
لذا فإن الصين، كدولة كبرى لها ثقلها ومكانتها العالمية، لن تبادر بالدخول في وساطة من دون أن تحصل على ضوء أخضر من الرئيس بوتين، لاسيما أن بكين ليست بحاجة إلى دور في هذه الظروف والأفضل لها أن تبقى بمنأى عنها قدر الامكان، وإن كان الدافع الوحيد لها ـ من وجهة نظري ـ هو مصلحتها في الإبقاء على قوة روسيا ولكن من دون السماح لها كذلك بالتمادي بحيث تتجاوز تراتبية محتملة للصين في النظام العالمي، أي من دون أن تحقق روسيا انتصاراً عسكرياً وإستراتيجيا كبيراً يعزز نفوذها العالمي، وهو ماقد يكون إقتطاع من رصيد الصين المحتمل في قادم السنوات.
الصين تسعى بالتأكيد للخروج من هذه الأزمة بأكبر مكاسب استراتيجية ممكنة، مع تفادي أي خسائر إقتصادية أو تجارية، لذا فهي لا تريد الدخول في مواجهة حادة مع الدول الغربية دفاعاً عن روسياً، ولا ترغب كذلك في خسارة موسكو بتقديم دعم مباشر وصريح لحربه في أوكرانيا، بل حرصت على التفرقة بين ما يحدث في أوكرانيا وما يمكن أن تفعله حال قررت إستعادة جزيرة تايوان، معتبرة أن القانون الدولي يفصل تماماً بين الحالتين. وتدرك الصين أن موقفها في أزمة أوكرانيا لا ينفصل عن مبادئها التي تراهن عليها في رحلة الصعود لقمة النظام العالمي، وأولها إحترام السيادة الوطنية للدول وعدم التدخل في شؤون الآخرين، ولكنها تعمل كذلك على تفادي السيناريو الأسوأ لها وهو خسارة روسيا وفشلها في تحقيق أهدافها في أوكرانيا، أو سقوط الرئيس بوتين وإحتمالية صعود حكومة مهادنة للغرب في موسكو، بكل ما يعنيه ذلك من سلبيات على الصين التي ستجد نفسها ـ وقتذاك ـ وحيدة في وجه الضغوط الغربية.
تدرك الصين أيضاً أن طموحها الاستراتيجي يستوجب التمسك بأقصى درجات الحذر السياسي والدبلوماسي في التعاطي مع طرفي الأزمة، الغرب وروسيا معاً، كي لا تتأثر مصالحها بأي خطوات أو مواقف غير محسوبة بدقة تامة، ناهيك عن أنها تخضع هذه الأزمة للبحث والدراسة لتقدير موقفها حيال تايوان، وإتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب سواء بإستعادة الجزيرة، او مواصلة التريث وإستراتيجية الصبر الإستراتيجي حتى يأتي الوقت الذي يمكن ان تعتبره بكين وقتاً مناسباً لتحقيق هذا الهدف.