منذ بداية القرن الحادي والعشرين، كان الكثير من التقديرات الإستراتيجية الرصينة يشير إلى أنه سيكون قرناً أمريكياً بامتياز او على الأقل نصف قرن أمريكي من الهيمنة والسيطرة والنفوذ العالمي، والأمر هنا لا يتعلق بإنحيازات عاطفية أو فكرية أو حتى شخصية، ولكنه عائد بالأساس لفوارق واضحة في مؤشرات وتراكمات عوامل القوة الشاملة بين الولايات المتحدة ومنافسيها الإستراتيجيين. والواقع حاليا أن هذه التقديرات لم تعد على الدرجة ذاتها من اليقين في السنوات القلائل الماضية، سواء بسبب تسارع وتيرة التآكل في مكونات وركائز التفوق الأمريكي، أو بسبب الإخفاقات المتوالية للسياسة الخارجية الأمريكية في معالجة القضايا الدولية، وفشل تدخلاتها العسكرية، أو بسبب بروز تحديات مبكرة للنفوذ الأمريكي سواء بشكل متوقع كما هو حال التحدي الصيني، أو غير متوقع كما يحدث من جانب روسيا. وفي مجمل الأحوال فإننا بصدد مراجعة شاملة للتقديرات والحسابات ولاسيما فيما يتعلق بالأمور المؤثرة في إدارة صراع النفوذ الدولي مثل التفوق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي.
الملاحظ خلال زيارة الرئيس جو بايدن مؤخراً إلى منطقة شرق آسيا، أن تحدي النفوذ الأمريكي لم يعد يقتصر على منافسين تقليديين مثل الصين وروسيا، بل بات يشكل قوى أخرى يصعب القفز على ما تمثله من تهديد للولايات المتحدة وحلفائها الآسيويين، مثل كوريا الشمالية، التي استأنفت إطلاق صواريخها الباليستية بعد يوم واحد فقط من مغادرة الرئيس بايدن أجواء المنطقة، في جولة تعهد خلالها بردع بيونج يانج!
الواقع أن انتظار الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون ليوم كامل لإرسال رسالته إلى واشنطن يوحي بأن بيونج يانج ليست على مستوى الإندفاع والتهور الإستراتيجي الذي يتخيله البعض، فالتقارير الإستخباراتية الأمريكية كانت تشير إلى إستعداد لإطلاق صواريخ كورية شمالية أو إجراء تجربة نووية جديدة أثناء الزيارة ذاتها، وهذا لم يحدث وآثرت بيونج يانج تجنب مفاقمة التوتر والإكتفاء بتوصيل رسالتها، وبالتالي فهذه ليست الرسالة الأهم بالنسبة للولايات المتحدة، التي شعرت بالإنزعاج والقلق بشكل أكبر من إطلاق القاذفات الصينية والروسية خلال تدريب مشترك في بحر الصين الجنوبي بالتزامن تماماً مع جولة الرئيس بايدن في المنطقة. والمؤكد أن تحديد موعد هذا التدريب المشترك ليس مصادفة، مادفع مسؤول امريكي للقول "نعتقد أنها (التدريبات) تظهر أن الصين تواصل إبداء استعدادها للتحالف الوثيق مع روسيا بما يشمل التعاون العسكري"، وأضاف "الصين لن تتخلى عن روسيا. بدلا من ذلك، يظهر التدريب أن الصين مستعدة لمساعدة روسيا في الدفاع عن شرقها بينما تقاتل روسيا في الغرب"، كما توضح "أن روسيا ستقف مع الصين في نزاعاتها الإقليمية مع الجيران في الشرق وفي بحر الصين الجنوبي"، ما يعني أن واشنطن قد تلقت الرسالة التي وصلت أثناء انعقاد قمة قادة دول التحالف الرباعي للحوار الأمني (كواد) ـ الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان ـ في طوكيو.
هذه اللفتة الرمزية الصينية ـ الروسية المشتركة بمنزلة إعلان عن تحدي مشترك للنفوذ والهيمنة الأمريكية، واصبح السؤال الذي يحتاج إلى إجابة يتعلق باحتمالية تشكّل محور صيني ـ روسي، أم أن الولايات المتحدة تواجه تحدياً منفرداً لكل من القوتين على حدة، فالحاصل أنه ليس هناك تحالف عسكري مؤسسي بين بكين وموسكو، ولكن هنا مقاربات مواقف وأرضية مشتركة، وأن الشراكة التجارية والاقتصادية بينهما ليست على درجة كبيرة من العمق بل ازدادت في الأعوام الأخيرة فقط منذ أزمة شبه جزيرة القرم وما تلاها من عقوبات غربية فرضت على روسيا، ناهيك عن أن الصين لا تشاطر روسيا موقفها في الأزمة الأوكرانية بشكل متطابق، بل ربما ترى فيما يحدث إستنفاراً للغرب وتعطيلاً لخططها بشأن تايوان، فضلاً عن أنها تبقي على خيط رفيع يحول بينها وبين التأثر إقتصادياً بالعقوبات الغربية المفروضة على روسيا بسبب حرب أوكرانيا.
اعتقد أنه لا يمكن القول بوجود تحالف صيني ـ روسي لمواجهة النفوذ الأمريكي عالمياً، ولكن هناك مساران منفصلان لمناكفة القوة الأمريكية، يعملان بالتوازي ولكنهما يصبان في الاتجاه ذاته ويسعيان لتحقيق نفس الهدف وهو تقويض الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي، وهنا يبدو التحدي الصيني الأهم بالنسبة لواشنطن التي تنظر لبكين باعتبارها الخصم الإستراتيجي الرئيسي لها، ولاسيما أن الأخيرة لم تكتفي برسالة التدريبات المشتركة مع روسيا بل أعلنت بدء التنقيب عن الغاز في مناطق متنازع عليها مع اليابان، وزادت التوتر على الحدود مع الهند بتشييد جسور في مناطق متنازع عليها، وجميعها رسائل لقادة "كواد" الذين التقوا الرئيس بايدن في طوكيو للتباحث في الترتيبات الأمنية الاقليمية.