تشير معظم الشواهد والمؤشرات إلى أن حرب أوكرانيا قد دخلت مرحلة "كسر عظام"، وأن الأزمة لن تشهد تسوية تفاوضية على الأقل في غضون المدى المنظور، بل إن الترجيحات تتجه إلى تصاعد في العمليات العسكرية خلال الفترة المقبلة على قاعدة الإمدادات العسكرية الغربية المتزايدة التي تتجه إلى أوكرانيا.
الرئيس الأوكراني زيلينسكي يقول إن الدبلوماسية وحدها هي التي يمكنها انهاء الحرب، ولكنه يعود ويطالب روسيا بالعودة إلى نقاط تمركزها عسكرياً قبل الحرب، وهو موقف يتماس بشكل أو بآخر مع موقف كل من الولايات المتحدة وبريطانيا اللتان تسعيان إلى إضعاف روسيا بشكل نهائي ويعلنان بكل صراحة أنه لا يجب السماح لروسيا بأن تنتصر. والبعض يقول إن المفاضلة الآن لانهاء هذه الحرب هي بين الأرض والبشر، بمعنى أن ثمن التسوية هل يكون أرضاً أم مزيد من الضحايا؟ والحالتين أسوأ من بعضهما و تبدوان مفاضلة بين سيء وأسوأ، أو بين شرين مستطيرين!
أحد أهم الأمور التي تعطل الوصول إلى سيناريو نهاية هذه الحرب هو رغبة القوى الكبرى في إستشكاف حدود القوة الروسية التقليدية من جهة، وتجريب تكتيكات وخطط حروب المدن الجديدة من جهة ثانية، فلا ينكر أحد من المراقبين أن أداء الجيش الروسي في هذه الحرب يمثل أحد أبرز نقاط الإهتمام لدى الدوائر الغربية، وأن أداء القوات الأوكرانية بقدرتها على القتال رغم محدودية تسليحها يثير إهتمام المخططين العسكريين أيضاً، إذ لا يخفى أن الحروب غير التقليدية باتت أحد أخطر التحديات التي تواجه الجيوش الحديثة، والكل يرغب في التعرف إلى العوامل المؤثرة في هذه الحروب وكيفية إدارتها والتحكم في مساراتها، حتى أن هناك من يقول بأن الكثيرين في الغرب ينتظرون معركة كييف ويدفعون باتجاه حدوثها، لمراقبة أداء القوات الروسية في معركة كبرى كهذه، ومناظرة تطور الأمور عسكرياً في حروب المدن وتجريب التكتيكات الدفاعية التي يمكنها وقف زحف جيش كبير بحجم الجيش الروسي، وكلها أمور مهمة ليس فقط للولايات المتحدة التي تعطي اولوية قصوى لهزيمة روسيا وإراقة ماء وجهها، ولكن أيضاً للجيوش الأوروبية التي تتحضر لظروف مماثلة قد تتعرض لها تحت أي ظرف من الظروف الجيواستراتيجية، لاسيما أن حرب أوكرانيا قد أثارت مخاوف الجميع خصوصا في دول شرق أوروبا التي كانت جزءاً من الإتحاد السوفيتي السابق.
بالإجمال الغرب، أو شريحة كبيرة منه، يراهن على إبقاء المعركة لأطول مدى زمني ممكن، لإنهاك روسيا وترقب إحتمالية تغير النظام في الكرملين وتكرار سيناريو الإنسحاب من أفغانستان في عام 1989.
إجمالاً أيضاً لا تبدو حرب أوكرانيا خارج السيطرة، ولم تخرج إلى سيناريو "مجنون" فروسيا تتحسس خطاها جيداً، ولا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع حلف الأطلسي (الناتو)، والغرب كذلك يتجنب التورط في مواجهة مباشرة معها، ولكن الطرفين يتمسكان بتحقيق أهدافهما الإستراتيجية، التي تبدو متباينة إلى حد ما بالنسبة للحلفاء الغربيين. ومع ذلك لا يمكن إعتبار هذه الأحكام قطعية أو نهائية، فالرئيس بوتين يتحاشى المساس بسيادة دول أخرى سواء كانت ضمن أعضاء حلف الأطلسي أم لا، ويتعامل بحذر شديد في مسألة إمداد الغرب أوكرانيا بالأسلحة ولم يتعامل مع الأمر بعد باعتباره "عدواناً يستحق الرد" كما تحذر موسكو دوماً. ولكن هذا الموقف قابل للتغير في حال استشعر الكرملين أن هذه الامدادات قد تتسبب في تعرض الجيش الروسي للإنكسار في أوكرانيا.
اعتقد ومن وجهة نظري أن الطرفين، الروسي والغرب، لم يصلا بعد للنقطة التي يمكن عندها الإقتناع بضرورة تقديم تنازلات متبادلة لحفظ ماء وجه الطرفين، وهذه النقطة تبدو بعيدة للغاية بالنسبة للغرب الذي تدور المعركة على أرض ليست بعيدة عنه ولكن لا يمكن اعتبارها كذلك جزءاً منه حتى الآن، على الأقل رسمياً، فأوكرانيا ليس عضواً بالتكتل الأوروبي (الإتحاد)، وليست كذلك عضواً بالتحالف العسكري الغربي، وبالتالي فالغرب يبدو وكأنه يخوض حرب بالوكالة ضد خصم إستراتيجي عنيد، حيث يعتقد الكثيرون هناك ضرورة إستغلال الفرصة للإيقاع بالدب الروسي أو تحجيم خطره على أقل التقديرات، وهذا مايفسر إحجام العواصم الغربية ـ حتى الآن ـ عن تشجيع أوكرانيا على التسوية السياسية أو على الأقل الكف عن صب الزيت على نار الحرب، ناهيك عن تقديم حلول ومقترحات دبلوماسية يمكن أن تسهم في التوصل إلى حلول تفاوضية.
الخلاصة في كل ماسبق أن الدبلوماسية لم تفشل بعد في أوكرانيا لأنها ـ ببساطة شديدة ـ لم تختبر جدياً، وما جرى من جولات تفاوضية بين روسيا وأكرانيا لم يكن متوقعاً لها النجاح في تسوية الأزمة، وبالتالي فإن الأمر يبدو مرهون بوصول الأطراف جميعها إلى قناعة بأن الوقت قد حان للخروج من هذه الأزمة سواء من خلال صفقة قائمة على الندية أو إقرار طرف ما بانتهاء فرصه في تحقيق أي مكسب على الصعيد الميداني.