يبدو أن الدول الغربية لا تزال تدور في حلقة مفرغة ولا تحاول فهم منطلقات دول مجلس التعاون المنتجة للنفط ومواقفها حيال الأزمة الأوكرانية، ويتجسد هذا "التعجب" الغربي غير المبرر في الكثير من عناوين الصحف؛ فعلى سبيل المثال ذكرت صحيفة "تلجراف" البريطانية مؤخراً أن السعودية لا تساعد الغرب في "خنق" موسكو، برفضها زيادة الإنتاج النفطي، وأن الرياض تبدو الآن حليفة لروسيا أكثر من كونها حليفة للغرب! وفي الإتجاه ذاته ذهب الكاتب جوش روجين في مقال بصحيفة "واشنطن بوست" إلى إنتقاد السعودية والإمارات بحدة، متسائلاً عما إذا كانت الدولتان حليفتين أم خصوم لواشنطن، ويستنكر مواقفهما في أزمة أوكرانيا ويزعم أنهما يسهمان في ملء خزانة الرئيس بوتين بالأموال، داعياً البيت الأبيض إلى إظهار القوة تجاه سياسات الدولتين!
هذه الأحكام السطحية على مواقف دول أخرى لها مصالح إستراتيجية يحق لها الدفاع عنها وتبني سياسات تتماشى مع هذه المصالح، تماماً كما يفعل الغرب، تبدو غير مبررة لأنها لا تستند إلى أي منطق سوى منطق التحريض وإضافة المزيد من التعقيد على أجواء العلاقات الخليجية الغربية.
وقبل مناقشة أو تفنيد التصورات الغربية في هذا الموضوع، أشير أولاً إلى أن اوروبا نفسها تتحرك في جميع ملفات علاقاتها الدولية انطلاقاً من مصالح دولها وشعوبها ولا شىء غير ذلك، وهذا ليس عيباً بالمرة، بل إن العكس صحيح تماماً، ومن المآخذ على أي دولة أو تكتل أن يتجاهل مصالح دوله وشعوبه في موضوع أو قضية ما. لنا في التعامل الأوروبي تحديداً مع مسألة الإتفاق النووي الإيراني مثال على ماسبق، حيث قال رئيس الدبلوماسية الأوروبية جوزيب بوريل الذي زار طهران مؤخراً إن الإتحاد الأوروبي يحاول إنقاذ مفاوضات إحياء اتفاق إيران النووي التي تعثرت بسبب إحجام واشنطن عن رفع الحرس الثوري من قائمة الإرهاب، وقال المفوض الأعلى للسياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي في حديث لصحيفة "فايننشال تايمز" إن التكتل يبحث عن "طريق وسط" لإيجاد حل مناسب للقضية، وأشار بوريل إلى أنه يتم النظر في سيناريو يقترح رفع صفة "الإرهاب" عن الحرس الثوري، على أن يبقى هذا التصنيف لمركبات أخرى من المنظمة، مثل "فيلق القدس"، حسبما ذكرت الصحيفة.وشدد بوريل على أن إقتراحه يمثل "نقطة التوازن الوحيدة الممكنة" في هذا الإطار، مؤكدا أنه "لا يمكن الإستمرار على هذا الطريق". وأضاف: "سنستفيد نحن الأوروبيون كثيرا من هذه الصفقة، لقد تغير الوضع الآن.. سيكون من المهم جدا الآن بالنسبة لنا أن يكون لدينا مورد (خام) آخر"، في حين أن "الأمريكيين بحاجة إلى نجاح دبلوماسي".
إلى هنا والكلام يبدو طبيعياً لمن ينظر للأمور من زاوية العلاقات الدولية القائمة على المصالح بشكل عام، ومن زاوية مصالح أوروبا والغرب بشكل خاص، ولكن الأمر يختلف كثيراً بالنسبة لمن ينظر إليها من زاوية مصالح دول مجلس التعاون، التي يعرف الجميع وجهة نظرها بشأن ضرورة تحجيم التهديد والنفوذ وبرنامج الصواريخ الباليستي والمسيرّات الإيرانية قبل التسرع في إحياء الصفقة النووية القديمة التي تسببت في إنزلاق منطقة الشرق الأوسط إلى وضعها الحالي حيث يعربد الحرس الثوري الايراني في الكثير من مناطقها ويهدد مصالح الجميع ويقصفها بشكل مباشر أو بالوكالة، بما في ذلك المصالح ومناطق النفوذ الأمريكية. ألم يستمع المسؤولون الأوروبيون إلى شهادة الجنرال سكوت بريير مدير الاستخبارات الدفاعية الأمريكية خلال جلسة لمجلس الشيوخ قال فيها إن الحرس الثوري الإيراني قد يصعد إستهدافه لشركاء الولايات المتحدة في المنطقة وإعتداءاته على القوات الأمريكية في حال حصل على إعفاء من العقوبات بموجب أي صفقة تتعلق بإحياء الإتفاق النووي. بالتاكيد الكثيرين تابعوا هذه الشهادة وغيرها من تحذيرات الخبراء والمتخصصين، علاوة على أن الأوروبيين أنفسهم لديهم قناعة بمحتوى هذه التحذيرات كونهم الأكثر دراية بسلوك النظام الايراني، ولذا كانوا الأقل اندفاعاً للتفاهم مع طهران قبل الأزمة الإيرانية، ولكن الوضع تغير تماماً وانقلب للضد عقب الأزمة والسعي للتخلص من هيمنة الغاز الروسي على وارادات الطاقة الأوروبية، حيث يمكن أن تلعب إيران دوراً مهماً في هذا الإطار.
تناسى الأوروبيون إذاً، وهم أيضاً شركاء إستراتيجيين لدول مجلس التعاون، مواقفهم تجاه إيران ويسعون لبناء أرضية مشتركة يقف عليها الجانبين الأمريكيين والإيرانيين، وبالتالي نستغرب أن يستغربوا هم أنفسهم سعي دول مجلس التعاون للحفاظ على مصالحها الإستراتيجية علماً بأن الحفاظ على هذه المصالح لا يضر الغرب، وهذا يتناقض مع الموقف الأوروبي الذي يتسبب في ضرر بالغ لأمن دول مجلس التعاون وليس فقط باقتصاداته. لا أشير هنا لمعاملة بالمثل بل نشير إلى مفارقة التصرف ونقيضه، أو إتيان السلوك وانتقاده لدى الآخرين، علماً بأن المحركات والدوافع واحدة وهي مصالح الدول.
بالتأكيد أن دول مجلس التعاون لا تسعى إلى "قطرنة" سياستها الخارجية، كما تقول مجلة "فورين افيرز" ولا إلى محاكاة سلوك الغرب، ولكنها وجدت نفسها في موقف صعب للغاية يحتم عليها بناء توازن دقيق وصعب للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية مع الغرب وروسيا معاً، والأمر ليس بالسهولة التي يتخيلها البعض والتضحية بالمصالح مع أحد طرفي الأزمة، الغرب وروسيا ـ يمثل خسارة استراتيجية فادحة لهذه الدول، وبالتالي فالأمر لا يتعلق بإرسال إشارات جيو استراتيجية سيئة للرد على مواقف أمريكية حقيقة تخلت فيها واشنطن عن دعم حلفائها الخليجيين بقدر ماهي سياسات واقعية تستهدف الحفاظ على مصالح الدول الخليجية. وإذا كان بعض الغربيين يدعون المملكة العربية السعودية لإعادة التفكير في موقفها فإن الأولى بهذه النصيحة هو الغرب نفسه الذي يبدي تفهماً لمواقف دول أخرى لا تساير سياساته تجاه روسيا، في حين يتبنى سلوكاً سياسياً مختلفاً ويحاول الضغط على دول مجلس التعاون للسير في ركبه حتى لو كان الثمن خسارة مصالح ضخمة مع روسيا!
العلاقات الخليجية مع الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً تواجه اختباراً صعباً وتجاوز مايحدث حالياً يتطلب تفهماً غربياً لمصالح الحلفاء في الخليج ومواقفهم ودوافع سياساتهم، ثم العمل بشكل جاد لاستعادة الثقة المفقودة بين الجانبين، وإعادة تعريف المصالح المشتركة بما يسهم في استئناف الشراكة على أسس ندية تضمن استمرارها وتطورها.