رغم "كارثية" أوضاع الإقتصاد الأفغاني، الذي يتعرض لـ"دوامة الموت" بحسب وصف الأمين العام للأمم المتحدة، انطونيو غوتيريش الذي حذر مؤخراً في مؤتمر دولي عقد افتراضياً، من أن "مليون طفل أفغاني يعانون سوء التغذية الحاد هم على وشك الموت"، ورغم تراجع الأوضاع الأمنية وتزايد خطر تنظيم "داعش" الذي نفذ مؤخراً العديد من العمليات الإرهابية في أفغانستان، نجد أن ملابس النساء الأفغانيات هي أكثر مايشغل حركة "طالبان" التي تحكم البلاد!
في لقاء نادر الحدوث مع قناة "سى إن إن" الأمريكية، قال سراج الدين حقاني وزير الداخلية المعين من قبل حركة طالبان أن هناك ما أسماه بأخبار سارة تتعلق بعودة الفتيات إلى المدارس الثانوية في أفغانستان، وقال إن العمل مستمر للتوصل إلى آلية لإعادة فتح المدارس الثانوية، ولكن حديثه عكس تركّز البحث المستفيض حول "زي الفتيات" بحيث يخرج بالشكل الذي يتوافق مع رؤى الحركة وقياداتها!
شواهد كثيرة على أن حركة "طالبان" اليوم لم تتغير كثيراً عن "طالبان" الأمس سوى في محاولة إقناع العالم بأنها تغيرت (!) وهذه المحاولة لا تستند في حقيقة الأمر إلى شواهد واقعية بل على مجرد إعلان نوايا أو رغبة في التغيير هي أقرب إلى الخداع منها إلى الحقيقة. بالأمس، ظهرت مذيعات القنوات التلفزيونية الرئيسية في أفغانستان وهن يغطين وجوههن ـ بعد أن كن يرتدين الحجاب ـ امتثالاً لقرار حركة "طالبان"، التي منحت المذيعات مهلة انتهت يوم الأحد الماضي للإمتثال "للأحكام الإسلامية الخاصة بملابس النساء"، كذلك حذرت الحركة الموظفات الحكوميات من الفصل في حال عدم الإلتزام بالقواعد الخاصة بالملابس، كما أعلنت تخصيص أيام محددة لزيارة النساء للحدائق العامة.
لا أريد أن أخوض هنا في نقاش ديني حول توجهات الحركة، ولكنني أناقش الأمر من زاوية السياسة والإدارة وحتى الإعلام والتسويق السياسي، فالحركة يمكنها الفوز بجدارة بجائزة القدرة على تشويه الصورة الذاتية، وهذا أمر يخصها وحدها طالما أن الأمور تمضي في مسار يرضي قادتها، ولكن هناك زاوية تُخرج هذا النقاش من الخاص إلى العام، أي من الشأن الطالباني الخاص إلى الشأن الإسلامي العام؛كون الحركة المحسوبة على العالم الإسلامي تقدم للعالم صورة مشوهة عن الدين الإسلامي الحنيف، ولا أجد في هذا الإطار اختلافاً كبيراً بين من يشوه الإسلام بالقتل وسفك الدماء، ومن يشوهه بالتشدد وإرتكاب الحماقات على مسمع ومرأى من العالم زاعماً ان هذا هو الإسلام!
لا أحد يختلف على أن إدارة "طالبان" تعد شأناً أفغانياً خالصاً، ولكننا نتناول هنا الشق الخاص بالصورة الذهنية للإسلام بحسب ماتعكسها ممارسات وسلوكيات وتوجهات الحركة، لأنه ليس لأحد ان ينكر أن العالم ينظر للحركة ويقُيّم رؤاها من خلال مرجعيتها الدينية بغض النظر عن مسألة تباين الرؤى والأمور الفقهية الأخرى التي يمكن أن ينصت لها المتخصصون، بينما لا تبدو موضع تأثير على تصورات العالم في مجمله، والتي تتبلور من خلال السياقات المعلنة للأحداث بعيداً عن خلفياتها ومدى تماثلها مع السائد الأعم في العالم الاسلامي.
لا أحد يستطيع أن يغير سلوك "طالبان" التي تختزل مسألة الحكم في أزياء النساء وملابسهن وتعليمهن، ولم نسمع عنها خطة إقتصادية لصناعة أو زراعة أو تصورات لسياسة خارجية أو أمنية أو حتى على صعيد مكافحة تنظيمات إرهابية تهدد حكمها بالزوال، ولو من باب جذب إهتمام العالم وتشجيعه على مساعدته في التصدي لهذه التنظيمات، ولكننا نسمع كثيراً عن الحجاب وغطاء الرأس، وهو موضوع لا أعتقد أن له أولوية كأولوية باقي شواغل الشعب الأفغاني التنموية والإقتصادية والصحية والتعليمية وغيرها.
المعضلة الحقيقية في حكم حركة طالبان تكمن في رغبتها في ممارسة الحكم انطلاقاً من رؤيتها الدينية الحصرية، وإقناع العالم في الوقت ذاته بأنه قد تغيرت أو في سبيلها للتغيير، وهذا ناجم بالأساس عن صراع داخلي بين من يرغبون في تبني نهج حكم أكثر مرونة وانفتاحاً، ولو من باب تبني نهج التقية السياسية على غرار النظام الإيراني، وبين من يتمسكون بنهج الحكم الأكثر تشدداً بغض النظر عما يسببه من صدام داخلي وخارجي، والواضح حتى الآن أن أصحاب الرؤى الأكثر تشدداً هم أصحاب القول الفصل في رسم سياسات الحركة، ما يضع مصيرها على المحك ويفتح باب التساؤلات حول قدرتها على البقاء في الحكم في ظل التحديات الكبرى القائمة داخلياً وخارجياً. والخلاصة أن "طالبان" في مجملها كثيراً عن نسختها السابقة سوى في بعض محاولات التسويق السياسي الذي سرعان ما يتبدد ويتبخر تحت تأثير القرارات والمواقف المستنسخة من ملفات طالبانية قديمة.
واعتقد أن الرهان على إمكانية حدوث تغيير جذري أو نسبي في سلوك حركة "طالبان" يبدو محفوف بالشكوك، فطالبان لم تمارس الحكم ـ حتى الآن ـ من منظور سياسي، بل من منظور ديني صرف وتتصرف على هذا الأساس، وكل الشواهد تقول أنها تستنسخ نفسها مجدداً، وأن كل ما تعلمته خلال العقدين الماضيين هو فنون التسويق والعلاقات العامة، التي تبدو شبيهة بما يفعله النظام الإيراني، حيث الخطاب السياسي والإعلامي في اتجاه، والسلوك والتصرفات على أرض الواقع في اتجاه مغاير تماماً.