وقع بين يدى فى الآونة الأخيرة العديد من الكتب والمؤلفات حول جذور العنف والإرهاب فى العالم العربى والإسلامي، ومن خلال قراءتى وتجولى بين صفحات هذه الكتب القيمة، ادركت بيقين أن الأفكار والتصورات بشأن معالجة آفة التطرف والإرهاب لا تنقصنا فى هذه المنطقة، بل ينقصنا التعامل مع البحث العلمى بما يستحق من جدية ومهنية واحتراف.
بعض هذه الكتب صدر قبل عقد ونيف، أى عقب اعتداءات الحادى عشر من سبتمبر 2001 مباشرة، وتضمن ما يشبه خريطة طريق واضحة للفكاك من قبضة التطرف والإرهاب والصراعات الطائفية وغير ذلك من ظواهر سلبية ارتبطت فى معظمها بالفهم المغلوط للدين الإسلامي. ومن ثم فان السؤال الذى يطرح نفسه بديهيا هو: لماذا لاقت أفكار منظرى التطرف والتشدد والإرهاب هذا الكم من الانتشار ليس فى داخل العالم العربى والإسلامى فقط بل فى قلب العالم الغربى وحيث يعيش مسلمون مهاجرون؟! ولماذا يعاد تدوير الأفكار المتطرفة وإعادة «تعليبها» وتصديرها بأنماط وقوالب مغايرة من منطقة أو دولة لأخري؟ وهل تحولت المسألة المذهبية فى منطقتنا إلى عائق حقيقى للتقدم والتطور فى ظل الجمود الفكرى وعقم الأرحام عن ولادة مجددين واصلاحيين حقيقيين؟
أحد أهم الرؤى التى أشعر بقيمتها فى تفسير التدهور الحاصل فى المسألة المذهبية وانزلاقها إلى هذا الكم الهائل من العنف وسفك الدماء هى الرؤى القائلة بأن غياب القانون والسماح بتمرير التحريص وعدم التصدى للاساءات بحق الآخرين قد فتح الباب واسعا أمام التطرف والتغول الذى بلغ مداه بالتغول على حقوق كفلها الشرع والدين والنيل من قناعات وعقائد الآخرين حتى بلوغ الدرجات القصوى من السعى لاستئصالهم ماديا ومعنويا.
كثير من الأدبيات السياسية باتت تتداول مفهوم تآكل السيادة الوطنية باعتباره حقيقة واقعة وأمرا ينبغى التسليم به، ولكن ذلك يحتاج إلى قدر من التعقل، فمستويات التآكل ومعدلاته فى هذه الحالة فارقة، ولا ينبغى الاستسلام لهذه المقولات والتعاطى مع نتائجها من تفكير رشيد، فالدولة الوطنية وسيادتها فى العالم الثالث لم تكد جذورها تلامس الأرض، على عكس الواقع فى العالم الغربي، وبالتالى فان السماح بفكرة تآكل السيادة فى هذه الدول يعنى بالضرورة مغامرة غير محسوبة بانهيار الدولة ذاتها فى ظل هشاشة البناء المؤسسى والقيمى والتشريعي... الخ.
العلاقة بين تآكل سيادة الدول والتطرف هى علاقة وثيقة باعتبار أن الثانى ربما يعد فى بعض الحالات أحد أعراض الأول، بمعنى أن التطرف والإرهاب ربما يشير إلى معضلة ماتعانيه سيادة الدولة على الأقل من الناحية التشريعية والقانونية، وتحديدا حين تغيب المنظومة القانونية اللازمة للتعامل مع تفشى خطاب التحريض والعداء ضد الآخر سواء كان من الديانة ذاتها أو من مذهب أو ديانة أخري.
فما يحدث فى بعض الحالات، أن الدول بمؤسساتها، تكتفى بتدوير التطرف والتعامل مع اعراضه ومعالجته ظاهريا من دون البحث فى جذوره والسعى إلى اجتثاثها واستئصالها، بل إن هناك دولا تسعى إلى توظيف هذا التطرف وتوجيه طاقته العدائية السلبية لخدمة مصالحها التكتيكية العابرة من دون أدنى اعتبار للمصالح الاستراتيجية بعيدة المدى للدول والشعوب. وقد حدث ذلك بالفعل فى حالات عدة فى مراحل زمنية سابقة فى عالمنا العربي، حين تعايشت بعض الأنظمة الحاكمة مع تيارات الإسلام السياسى المتطرف من أجل درء ما تتصوره خطرا نابعا من ايديولوجيات أخري، ووفرت بذلك الغطاء الرسمى لتمدد التطرف وانتقاله إلى مربع الإرهاب الترويع وسفك الدماء، بينما اكتفت أنظمة حكم أخرى بتدوير التطرف والمماطلة فى التصدى له بهدف احتواء خطره أو تصدير هذا الخطر إلى الخارج من دون أدنى انتباه إلى عواقب هذه اللعبة!
فى مثل هذه الحالات، ربما تخلت الدولة عن مسئولياتها الأخلاقية والقانونية التى تملى عليها ضرورة تأسيس قواعد التعايش، لاسيما فى مجال تقنين الفكرة ذاتها وغرسها بين مواطنيها، وبالتالى سمحت بنمو سياقات ثقافية ودينية مناوئة للتعدد والتنوع وحاضنة للتشدد والاقصاء والإرهاب ونبذ الآخر واستباحته.
الهدف من مقالى ليس توجيه الاتهام للدول بالمسئولية عن التطرف والإرهاب، وتبرئة منظرى التشدد وجماعات التحريض والتكفير والإرهاب من انتشار هذا الوباء، ولكن ما أريد قوله الدولة ينبغى أن تنتبه إلى مسئولياتها الحقيقية وتعمل على تحقيقها ولا تألو جهدا فى سبيل ذلك، ولا تقف عاجزة أمام الفواعل أو الفاعلين الجدد ممن يتم الترويج لدورهم فى النظام العالمى الجديد، فالدولة لاتزال الكيان الرئيسى الحامل لجينات الاستقرار والحامى لفكرة المواطنة.
فى ضوء ما سبق، فاننى أنظر بتقدير عميق لجهود قيادتنا الرشيدة فى دولة الإمارات العربية المتحدة من أجل تعزيز المنظومة التشريعية والقانونية على صعيد ترسيخ أسس السلم الأعلى والتعايش والمواطنة الحقيقية، والتى كانت أحدث ثمارها قانون مكافحة التمييز، الذى يعد نموذجا فى توطيد ركائز الدولة ورأب الثغرات التى تنفذ منها رياح التحريض والفتن والطائفية والمذهبية، وادعو الدول العربية إلى دراسة هذه الجهود والاستفادة منها فى تعزيز البناء وترسيخ سيادتها وتحصين استقرارها وتماسكها فى مواجهة الخطط والمؤامرات الخارجية والداخلية على حد سواء.