يبدو أن حكاية فهمي هويدي مع دولة الإمارات لا تتوقف عند حد موقف أو حدث معين، فالرجل لا يستطيع التغطية،أو حتى مجرد التشويش، على ما يكنه من مشاعر سلبية دفينة تجاه دولة الامارات العربية المتحدة مهما حاول انتقاء الالفاظ التي يعتقد أنها يمكن أن تخفي مشاعره الحقيقية!!.
في مقال بعنوان "مارشال العربي" نشره مؤخراً، ينطلق هويدي من تقرير صحفي نشرته صحيفة "الشروق" المصرية حول خطة "مارشال" زعم التقرير أن دولة الامارات العربية المتحدة تتشاور بشأنها مع البنك الدولي وتشمل إعادة الإعمار في ثلاث دول عربية هي سوريا واليمن وليبيا، وقال هويدي أنها "بادرة إيجابية في الوقت المناسب"، ولكنه لم يهدر كثيرا من الوقت وذهب مباشرة إلى الهدف الرئيسي من كتابة مقاله.
رغم المناورة الكلامية في بدايات المقال المذكور، فإني لم أخضع لتأثير ظاهر الكلمات، وأحسست بداخلي أنه ليس من الطبيعي أن يكتب فهمي هويدي كي يشيد بموقف الامارات وإحساسها بالمسؤولية تجاه إعادة إعمار الدول التي عانت آثار الاحتجاجات والفوضى الداخلية في السنوات الأخيرة. ولذا فقد استهل هويدي مقاله بتصويب المدفعية الكلامية باتجاه التشكيك في نوايا دولة الامارات ومقاصدها، حين ركز بشكل لافت على نقل بعض الآراء حول دوافع الموقف الأمريكي تجاه دعم مشروع مارشال الأوروبي، وهي آراء تشكك في هذه الدوافع وترى أن الدعم الأمريكي استهدف وأد "المد الثوري" الذي ظهرت تجلياته في فرنسا وايطاليا وقتذاك. ثم عاد هويدي مجددا للغمز واللمز من قناة الإمارات مستخدما دهاء عقود مضت في الكتابة الصحفية، حين يشير بشكل عابر إلى أن المشروع المزعوم يتطلب إلى جانب التمويل "خبرات وكفاءات بشرية، لا تستطيع دولة الإمارات ان توفرها من خلال كوادرها"، وكأن الرجل لم يسمع عن شركات إماراتية عالمية تدير موانئ بحرية ومطارات في كبريات الدول المتقدمة، وشركات أخرى ضخمة تعمل في مجالات الطاقة والحفر والتنقيب وقطاع الاتصالات والبنى التحتية، بل إن الشركات الاماراتية العالمية في مجال الإعمار والعقارات والبنى التحتية تحديداَ تعد من أفضل شركات العالم في هذا المجال، ولا أعتقد أن هويدي، الذي يتابع باهتمام واضح ما تنشره وسائل الإعلام وما يدور من أحداث وما يجري من تطورات، لم يسمع بأسماء شركات إماراتية ضخمة باتت تمتلك سمعة عالمية معروفة للقاصي والداني.
يبدو أن فكرة هويدي عن مسألة نقص "الكوادر البشرية" الاماراتية تنبع من واقع رؤية مبتسرة لا تزال تنظر للإمارات وغيرها من دول مجلس التعاون من منظور قديم لا يأخذ بالاعتبار ماشهدته هذه الدول من تطور تنموي ولاسيما على صعيد الانظمة التعليمية والابتعاث الخارجي وغير ذلك من وسائل أسهمت في بناء جيل جديد من الشباب المتخصص القادر على تحمل المسؤوليات في مختلف المجالات.
وهذا الجيل هو من يتولى حاليا مسؤولية العمل في كثير من الشركات الاماراتية الكبرى، ومع ذلك فمسألة علم هويدي أو عدم علمه بحقائق الواقع الاماراتي شأن خاص به، ولكن بافتراض جهله بهذا الجانب فكان حرياً بكاتب بخبرته وعمره أن يجمع ما يكفي من المعلومات قبل أن يجزم بأن الامارات تنقصها الكوادر البشرية، لاسيما أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يتطرق فيها إلى هذه الجزئية التي تعكس رغبة دفينة لديه في تجاهل واقع أقرب إلى وضوح الشمس في منتصف نهار يوم صيف قائظ.
ما يشعرني بالشفقة أن محاولات هويدي إخفاء إحساسه الدفين بالكراهية تجاه دولة الامارات قد فشلت، إذ أخفقت الكلمات التي سعى لانتقائها بدقة لتكون بمنزلة الغطاء البراق لرسالة يريد تمريرها وهدف يحاول الوصول إليه عبر مقاله.
حاول هويدي ارتداء ثوب الموضوعية في مقاله، ولكنه يظهر غلاً دفينا حين يتناول ما يصفه بخلفيات المبادرة التي تناولها التقرير، ويسعى جاهداً إلى الخوص في جدل مفاهيمي حول توصيف ماحدث في بعض الدول العربية من احتجاجات واحداث وفوضى في السنوات الأخيرة.ثم يعود هويدي ويطالب بتبني هذه المبادرة المزعومة من جانب مجلس التعاون، أو من قبل الجامعة العربية التي هو أدرى بحالها ومصير ومآل ما تتبناه من مبادرات ومشروعات!! ولكن الرجل لا يهمه حالياً أن يفشل المشروع أو ينهار قبل إطلاقه أو غير ذلك، ولكن مايهمه بالدرجة الأولى هو سحب البساط من تحت أقدام دولة الامارات وكفى! فالرجل يدرك تماماً تأثير مثل هذه المبادرات سياسياً واستراتيجياً في الأوزان النسبية للدول، وما يرتبط بذلك من أدوار اقليمية ودولية لا يود هويدي وغيره من ممثلي تيار الإسلام السياسي بكل تأكيد أن يكون للإمارات تأثير فيها او ارتباط بها.
لا نفتش هنا في نوايا هويدي، ولكن الأمر لا يحتاج إلى جهد ذهني أو ذكاء كبير كي يمكن فهم ما يقصده في مقاله، فالسطور أحيانا، كما العيون والنظرات، تفضح صاحبها، والرجل لم يكن يوماً ماً في مهمة البحث عن "فرصة تاريخية لتفعيل التعاون الخليجي"، ولا أتصور مطلقاً أنه يخشى على الامارات من الارهاق المادي حتى أنه يطالب بتخفيف "العبء الثقيل" عنها والمطالبة بالعدل وتوزيع المسؤوليات والتبعات المالية للمشروع!!.
ومن أجل وضع النقاط على الحروف، هناك أمور عدة مرتبطة بهذه المبادرة المزعومة أولها أن الحديث عن أي دور خليجي لاستنهاض الدول العربية التي تعاني الفوضى من عثرتها يقابل برفض ومعارضة شديدة من جانب الجماعات الارهابية المتطرفة، وفي مقدمتها الإخوان المسلمين، بغض النظر عن أهداف المشروع وفرص تنفيذه وغير ذلك، ولكن هويدي، بحكم خبرته المهنية العريضة، لم يذهب مباشرة إلى مربع الرفض بل حاول التسلل بمهارة وخفة، إلى المربع ذاته عبر مسارات أخرى مثل التشكيك في مقدرة دولة أو دولتان خليجيتان على تنفيذه رغم إدراكه المطلق أن اضطلاع دولة واحدة او دولتان خليجيتان بمثل هذه المبادرات هو السبيل الوحيد لظهورها إلى النور وتنفيذها بالشكل المرجو، ومع ذلك يتجه الكاتب إلى القاء الكرة في ملعب مؤسسات ومنظمات اقليمية وهو يدرك مسبقاً أن الفكرة بحد ذاتها كفيلة بإثارة خلافات حول الحصص والأنصبة وحدود المسؤوليات وغير ذلك من عوامل إفشال كثير من المشروعات الجماعية العربية!!
بالبحث في شبكة "الانترنت" نلحظ بسهولة أن مقال هويدي لم يكن الأول من نوعه الذي يعكس معارضة أي دور خليجي في دعم ومساعدة دول ما يعرف بالربيع العربي، فهاك مقالات عدة ينتمي كتابها في أغلبهم إلى جماعات وتنظيمات بعينها يهاجمون هذا الدور، ويرون أنه يستهدف "إجهاض محاولات دمقرطة هذه الدول" وكأن هذه الجماعات الارهابية المتطرفة تريد الديمقراطية وتحلم بها، وهذا بحد ذاته أمر مثير للسخرية!!
ربما أكون أكثر صراحة من السيد هويدي حين أقول أن التصدي لتمدد التيارات والجماعات المتطرفة في العالم العربي هو أحد أسباب دعم دولة الإمارات العربية المتحدة لهذه الدول ورغبتها في مساندة شعوبها كي لا تسقط بين براثن باعة الوهم وناشري الفتن المذهبية والطائفية، ومثل هذه الأهداف ليست سراً، فالولايات المتحدة حين تحركت لدعم أوروبا عبر مشروع "مارشال" كان أحد اهدافها مساعدتها على النهوض واستعادة مقومات قوتها والتصدي للنفوذ السوفييتي المتزامن مع نمو الأحزاب الشيوعية في دول أوروبا الوسطى والغربية، ولكن ماسبق ليس الهدف الوحيد فهناك أهداف أخرى أكثر أهمية تتعلق بالروابط التاريخية والعلاقات الأخوية المصيرية بين الشعوب العربية وغير ذلك.
شؤون عربية
ليس تفتيشاً في النوايا..!!
- الزيارات: 831