القيادة لا تنظر إلى الشعب بمعيار سياسي نظري بحت، بل تنظر إليه بمعيار أسري وعائلي نابع من فكرة 'عظم الرقبة'، سواء في مستويات القربى أو على مستوى معيار الانتماء والارتباط.
تتناول الأدبيات السياسية الحديثة بشكل واسع مفهوم “المواطنة” الذي أصبح مثار نقاشات موسعة، ولا سيما في العالم العربي منذ الأحداث التي عصفت بالكثير من دول المنطقة في عام 2011، حيث استولى هذا المفهوم على نصيب كبير من هذا الجدل والنقاشات، انطلاقا من أن غياب الأطر الغربية الناظمة لهذا المفهوم عن بعض دول المنطقة، يمثل المدخل الذي ولجت منه الاضطرابات وأعمال العنف والإرهاب إلى هذه الدول.
ربما يعتقد بعض الباحثين أن تعريب المفاهيم الخاصة بحقل العلوم السياسية ينفي بالتبعية أي ارتباط عربي أو إسلامي بهذه المفاهيم، ولكن الحقيقة هي أن هناك مفاهيم موازية لمعظم المصطلحات الغربية في بعض التجارب الإسلامية والعربية، كما أن هناك مفاهيم أكثر رسوخا في بعض التطبيقات القائمة في المجتمعات التقليدية العربية.
في بعض الممارسات السياسية العربية والخليجية المعاصرة هناك نماذج سياسية ربما لا تنطبق عليها مفاهيم غربية حديثة في الممارسة السياسية، ولكن هذا الأمر لا ينفي وجود “نمذجة” خاصة بهذه المجتمعات التي لم تنشأ من فراغ، بل تمتلك تجربتها الإنسانية والحضارية التي مرت بمراحل مختلفة عبر التاريخ شأنها في ذلك شأن بقية المجتمعات الإنسانية في الشرق أو الغرب.
في دول مجلس التعاون الخليجي، وتحديدا في دولة الإمارات العربية المتحدة، هناك نموذج حكم تشاوري قائم على موروثات عربية أصيلة ومتوارثة يقع التواصل بين الحاكم والشعب في قلب هذا النموذج الذي يمتلك بدوره معايير وأطرا ناظمة وضوابط محددة ربما لا يوجد نظير لها في الممارسات السياسية الحديثة، بحكم ما للمجتمع من قواعد شديدة الانضباط في رسم العلاقات والتفاعلات بين أفراده، وبما يضمن الاحترام المتبادل ويرسخ التواصل على المستويات الأفقية والرأسية بين أفراد هذا المجتمع، الذي يتسع يوماً بعد آخر، وتتسع معه دائرة العلاقات وتتشعب، بما يجعل لهذه الضوابط أهمية مضاعفة كونها الضامن الفعلي لحركة التفاعل بين الأفراد في هذا المجتمع.
فكرة “الموَاطنة” كما تتناولها الأدبيات السياسية المعاصرة هي فكرة غربية متطورة، ولا شك، وهي حجر الزاوية في تعميق الولاء والانتماء للأوطان وضمانة لتماسك الجماعة الوطنية، والانصهار الاجتماعي من خلال إعلاء قيم المساواة والعدالة والحرية، وهي الركائز التي تنطلق منها عملية التنمية السياسية الحديثة في أي مجتمع من المجتمعات المعاصرة. وهذه الركائز المجتمعية والأفكار النبيلة تترجمها منظومات من القوانين والتشريعات في مختلف الدول المتقدمة، التي تضمن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع، وهي أمور لا خلاف عليها على المستويين الإنساني والسياسي، ولكن ما أشير إليه هنا أن البعض يغفل حقائق ذات صلة وثيقة بتطبيق هذه الركائز في بعض المجتمعات العربية، التي نجحت في تكريس معايير “موَاطنة” ذاتية نابعة من قيم المجتمع وتراثه الثقافي الوطني، الذي لا يقل احتراماً للإنسان من المجتمعات الغربية المتقدمة.
في دولة الإمارات، على سبيل المثال، نجد أن مفاهيم العدالة وسيادة القانون والحريات العامة هي أحد ثوابت الدولة منذ تأسيسها في الثاني من ديسمبر عام 1971، وكل من يعيش على أرض هذا البلد يدرك هذه الحقيقة ومدى تجذرها في الوعي الجمعي للدولة الإماراتية الفتية، التي لا تفرق بين مواطن ووافد، فكيف لها أن تفرق بين مواطن وآخر؟
“عظم الرقبة” هو أحد معايير القيادة الإماراتية في التعبير عن شعورها بمواطنيها، بل هو أساس النموذج الإماراتي في “الموَاطنة”، وهو التعبير الذي ورد على لسان الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة أثناء أدائه واجب العزاء في أحد شهداء الإمارات باليمن، حيث أكد لذوي الشهيد “أخوك (الشهيد) وانتو عيالكم كلكم عظم رقبة”، مؤكداً الأساس الذي تقوم عليه العلاقة بين الدولة ومواطنيها، فهي علاقة قائمة على رباط لا ينفصم، فالقيادة لا تنظر إلى الشعب بمعيار سياسي نظري بحت، بل تنظر إليه بمعيار أسري وعائلي نابع من فكرة “عظم الرقبة”، سواء في مستويات القربى أو على مستوى الانتماء، ودرجات الارتباط التي لا تتوافر سوى بين الأهل وذوي القربي.
لا يدرك مغزى التعبير (عظم الرقبة) سوى من عاش وسط أبناء الإمارات ولامس التلاحم بين الشعب والقيادة، والترابط السياسي والاجتماعي الذي يتجسد في مجالس الحكام وأولياء العهود، ولكن الوعاء اللغوي قادر على نقل هذا التعبير وجوهره إلى الآخرين، وعندما تكون لديك قيادة تعتبر أفراد شعبها “عظم رقبة” فعلاً لا قولاً، فأنت بالتأكيد تمتلك ما يفوق معيار الموَاطنة، بدلالاته ومغزاه السياسي الحديث، بمراحل، لاسيما أن المسألة في الإمارات لا تقاس بالكلمات بل تقاس بالممارسات، فالإنسان في دولتنا هو الثروة التي لا غنى عنها، وهذه عقيدة القيادة التي تترجمها يوميا في قرارات يحصد ثمارها أبناء الإمارات كافة، بل إن هذه الثمار تمتد لتشمل في أحيان كثيرة المقيمين على هذه الأرض الطيبة من العرب والأجانب من دون تفرقة بين جنس ولون وعرق، فهذه هي الإمارات ومعاييرها الإنسانية والسياسية التي تمتلك رؤية حضارية متفردة تسبق أدبيات السياسة الحديثة وتنافسها في الارتقاء بالإنسان ووضعه في المكان الذي يليق به، حيث أمرنا الدين الاسلامي الحنيف الذي وجدت تعاليمه الوسطية طريقها إلى التنفيذ منذ نشأة هذه الدولة عام 1971 على يد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، ثم سار على دربه الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة.