تابعت الكثير مما كتب ونشر حول دوافع انسحاب القوات الروسية من سوريا مؤخرا، وقد تنوعت وتباينت الآراء ووجهات النظر في تفسير وتحليل قرار الكرملين المفاجئ، وتمحورت معظم هذه الآراء حول تأثير القرار الروسي على مصير الرئيس السوري بشار الأسد، واختزلت الأزمة برمتها في تساؤلات على شاكلة: من سيخلف الأسد؟ وهل تخلت روسيا عن الأسد أم لا تزال تتمسك به؟ وهل لإيران القدرة على حماية الرئيس الأسد والإبقاء عليه في منصبه، أم ستقرر تركه لمصيره وتغلّب مصالحها مع الغرب؟
وسط ركام هذه التحليلات لم أجد من يهتم بمصير تنظيم “داعش”، الذي يفترض أنه أحد الأسباب المباشرة في الوجود العسكري لهذا الكم الكبير من القوات على الأرض السورية، سواء الأميركية أو الروسية أو غيرهما، فقد غاب “داعش” وغابت النقاشات الجادة حول مصيره، وكأنه أصبح أمرا واقعا ينبغي التسليم به.
الآن بات واضحا للجميع أن القوات الروسية لم تكن تستهدف محاربة “داعش”، وبقية تنظيمات الإرهاب بقدر ما كانت تسعى إلى ضمان مصالحها الاستراتيجية في سوريا، سواء عبر عقد “صفقة مقايضة” مع الغرب طرفاها سوريا وأوكرانيا، أو عبر ضمان بقاء “النظام” السوري سواء تمثل ذلك في الرئيس بشار الأسد، أو شخص بديل يحافظ على المصالح الروسية في سوريا، وأهمها الوجود العسكري.
في بداية تدخله العسكري في سوريا، قال الرئيس فلاديمير بوتين إن الهدف هو محاربة الإرهاب، بينما هناك تقارير كثيرة موثوقة تتحدث عن أن الضربات الجوية الروسية كانت موجهة بالأساس لجماعات المعارضة المسلحة، وكان نصيب تنظيم “داعش” من هذه الضربات أقل بكثير، ما دعا الكثير من الخبراء إلى القول إن التنظيم لا يزال على قوته بعد انتهاء مهمة القوات الروسية في سوريا، بل إنه لم يكن هدفا روسيا.
الأعين جميعها تترقب مفاوضات “جنيف” وما بعدها، ولكن سؤال مصير “داعش” يبدو غائبا أو مغيبا عن أذهان الجميع، وتلك مسألة محيرة بالفعل، فهل استسلمت القوى الكبرى لوجود الكيان الداعشي في المنطقة، أم أن “مهمة” التنظيم والدور المنوط به لا يزال قائماً ولا تزال هناك حاجة دولية لوجوده خلال المدى القريب؟
أطراف سورية وإقليمية ودولية عدة تجلس على مائدة التفاوض في جنيف، تبحث جميعها عن تسوية سياسية للصراع الدائر في سوريا، ولكن لا أحد يشغل باله بمصير تنظيم “داعش”.
قد تكون روسيا أفسدت بالفعل “طبخة” كان يعدها الغرب في سوريا لإقامة منطقة عازلة في الشمال تستخدم للإطاحة بالأسد، ولكن هدفها “المعلن” بشـأن مكافحة الإرهاب لا يبدو أنه قد نال نصيبا كبيرا من اهتمام مخططي الضربات الجوية الروسية.
هلل الكثير من بسطاء المحللين والكتاب العرب للتدخل العسكري الروسي في بدايته، وهاجموا التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، واتهموه بالتخاذل في مواجهة تنظيم “داعش”، ولا أدري ماذا يقول هؤلاء وهم يرون الرئيس بوتين يخرج من سوريا بعد أن ضمن بقاء الأسد ورسخ أقدامه التي تزلزلت تحت وطأة هجمات المعارضة وتنظيم “داعش”؟
يجب أن ندرك أن العلاقات الدولية لا تدار بحسابات الأفراد ومنطق الأهواء، ولا سيما على صعيد العلاقات الروسية – الأميركية، فالدولتان تمتلكان إرثا سياسيا واستراتيجيا عميقا يجعل من الصعب على أي منهما إدارة علاقاته مع الآخر بمنطق الهواة أو تحت ضغط حسابات وانفعالات وقتية، فروسيا تدرك أن ما لا ينتزع بالقوة يمكن أن يؤخذ بالتفاوض، وأن طاولة المفاوضات ليست سوى امتداد طبيعي لساحات الحرب، وأن الحروب هي الوجه الآخر للدبلوماسية، ولذا يبدو قرار سحب القوات الروسية من سوريا ذا أهداف سياسية لها ارتباط وثيق بالعلاقات الروسية – الأميركية أكثر من ارتباطها بالأوضاع الميدانية في ساحات القتال بسوريا، لذا لا يبدو غريبا أن يقرر الكرملين فجأة مغادرة سوريا رغم أنه لم يحقق أي إنجاز ملموس على صعيد الهدف المعلن للتدخل العسكري (مكافحة الإرهاب) ناهيك عن أنه ترك تنظيم “داعش” على حاله ووضعيته في معظم أجزاء سوريا.
غادرت معظم القوات الروسية سوريا، وتركت أسئلة عدة مفتوحة بحاجة إلى إجابات منها: ما هو مصير تنظيم “داعش” وهل تستطيع قوات الأسد الصمود في وجه التنظيم إذا ما قرر استعادة الأرض التي فقدها تحت وطأة الضربات الجوية الروسية؟ وما هو موقف الولايات المتحدة والحلفاء الدوليين إزاء التطورات الجديدة على الأرض: هل يسلمون ببقاء الأسد وسيطرة “داعش”؟ وما هي صيغة التسوية السياسية المحتملة في سوريا؟ وهل يقبل الأسد بتقاسم السلطة والنفوذ وتفتت الدولة السورية؟ وما هو موقف إيران وهل تستطيع حماية الأسد بعد انسحاب حلفائها الروس؟
قناعتي الشخصية أن مصير “داعش” ليس بعيدا عن مصير الأسد، بل وثيق الصلة به، وبالتالي إذا واصل النظام السوري تشدده، كما حدث في بداية مفاوضات جنيف التي أعلن خلالها نيته مواصلة الحرب، فإن هذا الأمر لن يقابل بصمت أميركي ودولي وإقليمي، لأن هذا السيناريو معناه فشل جهود مكافحة “داعش” الذي تصعب محاربته في ظل المواجهات الدائرة بين النظام السوري ومعارضيه، الذين يفترض أن واشنطن تسعى لإحلالهم محل “داعش” على الأرض التي يسيطر عليها التنظيم، حيث لا يرغب الجانب الأميركي أن تقوي الحملة ضد “داعش” موقف النظام السوري، كما أن بقاء الأسد لا يشجع واشنطن وحلفاءها كثيرا على التصدي لداعش بفاعلية أكبر كي لا يستفيد الأسد من أي مكسب استراتيجي يتحقق بالقضاء على خطر التنظيم، أي أننا في مواجهة حلقة مفرغة تماما، قد لا يكون لها سوى أحد مخرجين؛ أولهما تسوية سياسية تقود إلى إنهاء العمليات العسكرية بين النظام ومعارضيه، ومن ثم تفرغ التحالف الدولي لقتال “داعش” ربما بدعم روسي إيراني، والمخرج الثاني يتمثل في إقامة منطقة حظر جوي في شمال سوريا، وهو الخيار الذي تجاوزته الأحداث عمليا وبات تحقيقه محفوفا بالتعقيدات والمصاعب.
لا يجب أن ننسى أن مكافحة تنظيم “داعش” ربما لم تعد أولوية استراتيجية تركية في ظل قلق أنقرة من المخططات الخاصة بإقامة دولة كردية ضمن فيدرالية سورية، وما يحمله ذلك من معان ودلالات مؤثرة في الأمن القومي التركي، لذا فإن الأمر المؤكد أننا لسنا في نهاية سيناريو الأزمة السورية، فالأيام لا تزال حبلى بالأحداث في هذا الملف الإقليمي المعقد، والتغيرات المتسارعة تبدو بحاجة إلى تعاون وتنسيق قويين بين المملكة العربية السعودية وحلفائها الخليجيين والعرب من أجل تفادي حلول مفروضة من الخارج، أو أن تسقط الأزمة برمتها من حسابات المجتمع الدولي ويطويها النسيان، بما ينطوي عليه هذا الاحتمال من أخطار جمة سواء على الأمن القومي العربي، أو على صعيد تمدد تنظيم “داعش” جغرافيا.