عقب كل جريمة إرهابية في دولة أو منطقة جغرافية ما من العالم العربي يخرج البعض ليتساءل: ألم يسيطر الجيش بعد على ربوع هذه المنطقة كاملة؟ وكيف يحدث هذا رغم أن الجيش والشرطة يقومان بعمليات عسكرية وأمنية مستمرة؟
والحقيقة أن هناك وجهين لمثل هذه التساؤلات أولهما يتعلق بالخلفيات والدوافع وراء السؤال بحد ذاته؛ فالبعض يستغل مثل هذه الاعتداءات الإجرامية ويعتبرها فرصة مناسبة للتشكيك في كفاءة الجيوش والطعن فيها، بل ما هو أكثر من ذلك، حيث يذهب البعض من فاقدي الولاء والانتماء الوطني إلى مساحات وأفكار مرفوضة للشماتة والسخرية والنيل من كفاءة عناصر الجيش والشرطة والسعي لتحقيرهم.. الوجه الآخر لهذه التساؤلات ينطلق من دوافع وطنية حقيقية ويسعى لفهم حقيقة ما يحدث خوفًا وقلقًا على جيش بلاده وشرطتها في مواجهة هذه العناصر الإجرامية.
في معركة الإرهاب والتصدي لتنظيماته، هناك أخطاء ترتكب دون قصد وهناك بموازاة ذلك حقائق استراتيجية غائبة شعبيًا وجماهيريًا ويتجاهل الإعلام تسليط الضوء عليه تحليليًا.
ونقصد بالأخطاء المهنية التي ترتكب تلك التي يقع فيها البعض حين يبادرون إلى إطلاق عناوين وشعارات إعلامية وصحفية رنانة مثل توجيه ضربة قاصمة للإرهاب، واستئصال الإرهاب وغير ذلك من عناوين جذابة ربما تريح الأفئدة والعيون لبعض الوقت ولكنها ذاتها سرعان ما تتسبب في إثارة الشكوك في مراحل زمنية لاحقة في حال وقوع جريمة إرهابية جديدة، ناهيك عن أن الحاقدين ووسائل الإعلام المعادية يستغلون مثل هذه العناوين ويستخدمونها لاحقًا للطعن في كفاءة الجيوش وقدراتها القتالية، وتشكيك الشعوب في أبنائها العسكريين والسعي للوقيعة بينهم.
أما الحقائق الاستراتيجية الغائبة فتتعلق بالأساس بطبيعة الحرب ضد الإرهاب، التي تختلف عن أي معارك وحروب أخرى، فهي حرب ممتدة زمنيًا، لا يمكن أن تنتهي في جولة واحدة، وغالبا ما تشهد حلقات متواصلة بين مد وجزر، وتخضع لاعتبارات وعوامل بالغة التعقيد.وللبرهنة على ما سبق، يكفي الإشارة إلى تجارب الحروب ضد الإرهاب في المرحلة الراهنة، حيث يصعب على أعتى الجيوش والقوات ذات التسليح التقني المتطور، استئصال شأفة تنظيمات الإرهاب تمامًا، ولعل أقصى درجات النجاح على هذا الصعيد تكمن في ملاحقة عناصر تنظيم إرهابي وتطهير منطقة ما منها بعد "طردها"، وهذا لا يعني بالضرورة القضاء عليها بل يعد بمنزلة ترحيل جغرافي للخطر الإرهابي، مثلما يحدث في العراق وسوريا حاليًا، حيث يتم استرداد مناطق ومدن عدة تقع تحت سيطرة "داعش"، لكن التنظيم ذاته لا يزال يقاتل ويوجه ضرباته في مناطق أخرى.للعدو الإرهابي سمات رئيسية أبرزها الغموض والضبابية، فالجيوش تواجه عصابات زئبقية مؤدلجة خفيفة الحركة جيدة التدريب والتسليح في معظم الأحيان، في حين أن الجيوش بطبيعتها غير مؤهلة لملاحقة أفراد مجرمين، وكفاءتها على هذا الصعيد ليست مقياسًا لقدراتها القتالية في مطلق الأحوال، فالجيش الأمريكي ذاته تعثر في مواجهة تنظيمات الإرهاب بالعراق وأفغانستان رغم ما يمتلك من معدات وتسليح متطور وتدريب على كفاءة عالية.ما أريد قوله إن معركة الإرهاب ذات طبيعة ممتدة، وخطرها لا يكمن في مناطق تمركز عناصر تنظيمات الإرهاب فقط، بل يكمن أيضًا في العقول التي تسكن فيها الأفكار المتطرفة، وقنوات التواصل والاقناع والتجنيد والحشد والتنظيم، وبالتالي فنحن بصدد معركة مجتمعية متكاملة الأركان، جزء من أعبائها فقط يقع على كاهل الجيوش وقوات الأمن، في حين يقع الجزء الأكبر منها على المؤسسات المجتمعية، التي تقع عليها مسئولية تجفيف المنابع وإغلاق القنوات والروافد التي تغذي تنظيمات الإرهاب بالعنصر البشري؛ فلو أن هذه الروافد أغلقت وجففت منابع الفكر الإرهابي، لأصبحت مهمة تنظيمات الإرهاب في تجديد دمائها واستعادة قوتها خيار تكاد فرص تحققه تقترب من العدم.الإرهاب -بحسب تقديري- مثل مرض فقدان المناعة المكتسبة (المعروف بالإيدز) فهو يتسبب في تآكل مناعة المجتمعات مثلما يعمل "الإيدز" على تقويض مناعة الإنسان، لذا فإن المجتمعات في مواجهة الإرهاب بحاجة مستمرة إلى تعزيز مناعتها وتقوية حصانتها الذاتية من أجل التصدي للفيروسات التي يمكن أن تصيب هذه المجتمعات في مقتل رغم تضاؤل خطر هذه الفيروسات وضعفها في الحالات العادية، أو في مواجهة الجسد المعافي، لذا فإن الإرهاب هو أخطر داء يواجه المجتمعات في عصرنا الحالي، ويستحق مواجهة مجتمعية شاملة، فعلا لا قولا؛ فالملاحظ أن هناك شبه يقين بضرورة الدور المجتمعي والمؤسسي في مكافحة الإرهاب، ولكن ما يحدث على أرض الواقع أن أخطر تهديد يواجه المجتمعات والدول يترك غالبًا للجيوش وقوات الأمن دون حراك مجتمعي يذكر للمؤسسات التربوية والإعلامية.ومن تجارب الماضي القريب، يمكن استخلاص دروس مفيدة في مواجهة الإرهاب، أهمها على الإطلاق ضرورة توافر حالة من الرفض والنبذ المجتمعي لأي فكر متشدد، فكل تشدد يمهد بطبيعته لما هو أخطر كونه بيئة صالحة لنمو التطرف والإرهاب في مراحل لاحقة، لذا فإن تكريس قيم إنسانية ودينية محورية مثل الاعتدال والتسامح وقبول الآخر مسألة بالغة الضرورة لمستقبل المجتمعات العربية والإسلامية، وبدونها يكاد الحديث عن مكافحة الإرهاب والتطرف يبدو كالحرث في الماء.علينا أن نساند جيوشنا في حربها ضد الإرهاب، وليس علينا أن نقف مكتوفي الأيدي ومراقبين سلبيين لما يدور من حولنا، بل لزامًا علينا أيضًا أن نكون أوفياء لأجيالنا المقبلة من خلال مكافحة هذا الوباء الخبيث فكريًا واستئصال جذوره من بيوتنا وشوارعنا ومساجدنا ومدارسنا.