نسمع ونناقش كثيرا ـ كباحثين ـ حول تجديد الخطاب الديني، وهو ملف شائك قتل بحثا ونقاشا ولا جديد بشأنه على مستوى التنفيذ، بعد أن ارتاح الجميع إلى فكرة الحركة في المكان، والضجيج من دون طحن، ولم يتحرك الخطاب الديني إلى الأمام قيد أنملة.
وعلى خلفية أزمة الخطاب الديني في عالمنا العربي والإسلامي، لاحظت أن هناك أزمة موازية لا تحظى بأي اهتمام يذكر، ولا ينتبه لها أحد رغم خطورتها وارتباطها بملف بالغ التأثير والأهمية وهو ملف الخطاب الإعلامي، الذي بات يمثل أحد روافد الفوضى والاضطراب الإقليمي في المنطقة العربية بعد أن كان نتاجاً لهذه الفوضى وذلك الاضطراب.
لا أحد ينكر أن الفوضى في الكثير من الدول العربية لها نظير أو وجه آخر في الفضاء الإعلامي، فهناك فوضى عارمة على مستويين أولهما يتعلق بالبث الفضائي، حيث انتشرت القنوات الطائفية والمذهبية التحريضية وتكاثرت بشكل بالغ الخطورة على الأقمار الصناعية التابعة لدول عربية وأخرى غير عربية، وجميع هذه القنوات ممول وموجه نحو تحقيق أهداف جماعات وتنظيمات وتيارات ودول بعينها لا تخطئها عين مراقب.
أما المستوى الثاني فيتعلق بالمحتوى الإعلامي للفضائيات والصحف الخاصة في الكثير من مناطق العالم العربي، حيث تحولت الكثير من الوسائل على هذا الصعيد إلى ساحات ومنافذ لتعميق الفتن والفوضى والاضطرابات في هذه الدول والمناطق، لا سيما في دول مثل ليبيا والعراق واليمن وغيرها.
وإذا تحدثنا بشكل أكثر صراحة، سنجد أن إحدى أدوات العبث والتلاعب الإيراني في المنطقة العربية تتمثل في الإعلام سواء التابع لإيران بشكل مباشر، أو الذي يتلقى أموالا ودعما إيرانيا، وينطلق من عواصم عربية معروفة للجميع.
وفي ظل الارتباط القوي بين معدلات الوعي والتعليم السائدة في المجتمعات وبين الأثر الإعلامي ومقدرة وسائل الاتصال على تشكيل الاتجاهات وتغيير القناعات السائدة، يصبح من البديهي أن يكون الإعلام أحد أخطر أدوات الصراع والتنافس الاستراتيجي على المصالح والنفوذ في المنطقة العربية، ويصبح سوق الإعلام رائجا بشكل لافت.
أحد مظاهر الأزمة الإعلامية في منطقتنا أن هناك ارتباكا وخلطا مفاهيميا، فالكثيرون يرتكبون أخطاء جسيمة بل يعمل بعضهم على تقويض الأمن والاستقرار في الدول والمجتمعات وهدم قيمها ونشر الفوضى بل ويعمل لمصلحة دول معادية وتنظيمات طائفية، ويروج لخطاب إعلامي تحريضي مثير للفتن تحت مسمى الحرية الإعلامية، والحق في تداول المعلومات وغير ذلك من شعارات وعناوين ليس لها نصيب من الحقيقة ولا قسط من الموضوعية.
وفي ظل الفوضى ومظاهر غياب الدولة وانهيار سيادتها أو تآكلها في بعض الدول العربية، يصبح الحديث عن المعايير والقواعد المهنية والاحترافية والقانونية، في المجال الإعلامي أو غيره، نوعا من العبث والجدال من دون طائل.
البعض يعتقد أن ما يحدث هو ردة فعل لسنوات وعقود طويلة من الكبت وتقييد الحريات، وأن المسار سيصحح نفسه بعد حدوث نوع من “الإشباع” للرغبة في تعويض هذه السنوات، وهذه فرضية أو تفسير لم تثبت صحته أو دقته، فالتمادي هو عنوان المرحلة، ولا مؤشرات على انحسار موجات الفوضى التي تتمدد وتكاد تتحول إلى نوع من الوباء المعدي الذي يهدد أمن واستقرار مجتمعات أخرى، لا سيما في ظل توظيف الكثير من هذه “الأبواق” للهجوم على هذه الدولة أو تلك.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل هناك حلول ومخارج من هذا المأزق؟ وفي رحلة البحث عن حلول وبالتفتيش عن الأسباب والجذور نجد أن هناك صعوبة في السيطرة على البث الفضائي ما لم يتم ذلك بالتنسيق على الصعيد الدولي وفق مواثيق واتفاقات برعاية المنظمات الدولية المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، وهو أمر بعيد المنال في الوقت الراهن. وحتى لو تم وضع ضوابط للبث عبر الأقمار الصناعية فهناك الإنترنت. كما أنه ليس لنا أن نحسن الظن ونتوقع أن تكف دول مثل إيران عن حروبها الإعلامية الطائفية في ظل تمسكها بتصدير الأزمات وخوض حروب بالوكالة وإثارة الفتن والاضطرابات في دول عربية عدة، فالخطط الإيرانية على هذا الصعيد واضحة وهي جزء من استراتيجيات إيران الإقليمية والإعلام في القلب من هذا كله، ولا يمكن أن تكف طهران عن الإنفاق السخي على قنوات التحريض الطائفية ما لم تتخل كلياً عن طموحاتها التوسعية الفارسية، وتلك مسألة صعبة التحقق في الظروف الراهنة.
ومن ناحية أخرى، فإنني عندما أتحدث عن الخطاب الإعلامي العربي لا أقصد بالتأكيد ضرورة وجود خطاب إعلامي عربي موحد أو حتى متقارب بسقف مصالح عليا عربية مشتركة في هذه الظروف المعقدة، فقد بات الاتفاق على مشتركات داخل بعض الدول العربية حلما بعيد المنال، كما لا أقصد بالتأكيد ضرورة السيطرة على هذا الكم الهائل من الفضائيات والصحف الورقية والإلكترونية التي تحولت إلى أبواق لتيارات وجماعات وتنظيمات ودول، ومن العبث الحديث عن السيطرة عليها في ظل استمرار العوامل والبيئة الحاضنة والممولة لها، بمعنى أن الفوضى الإعلامية الحاصلة هي “عرض” وليست الداء الأساسي، بما يملي ضرورة معالجة الأسباب وصولا إلى إنهاء “الأعراض”.