قلت منذ فترة أن "داعش" باتت أمراً واقعاً في سوريا ليس لقوة التنظيم الخارقة التي تستعصي على أعتي جيوش الدول العظمى، ولكن لأن هناك إرادة دولية ضمنية على ابقاء على الوضع الراهن وإدارته في وضعية تشبه إلى حد كبير ما ورد في كتاب "إدارة التوحش" الذي يمثل مرجعاً سياسياً للتنظيمات الارهابية في السنوات الأخيرة! بحيث يبدو الأمر وكأن القوى الكبرى ارتضت أن تدير هذا "التوحش" حتى تحين اللحظة المناسية للخروج بالمغانم الاستراتيجية التي تبتغيها وتنتظرها في الذكرى المئوية من اتفاق سايكس ـ بيكو؟.
روسيا ملئت الدنيا ضجيجاً بشان التدخل العسكري في سوريا من أجل التصدي لخطر "داعش" ولكن ما حدث بالفعل أن معظم القوات الروسية خرجت بقرار فجائي وبقي "داعش"! أما الرئيس الأمريكي باراك أوباما، فيكتفي بإدارة الأزمات في الشرق الأوسط والحيلولة دون الاضرار بالمصالح الاستراتيجية الأمريكية بانتظار الرئيس الأمريكي المقبل وما يقرره بشأن مصير هذه الأزمات! وهذه المساحة من الضبابية والغموض لا تقتصر على سوريا، بل يسبقها في ذلك العراق، الذي يبدو أنه بات منطقة أزمات مزمنة لا يكاد يبدو في الأفق أي مخرج منها.
ما يدفعني للتشكك في الأمر برمته أن ما يحدث في منطقتنا هو أشبه بحرث الأرض وتهيئتها للزراعة، فهناك تهيئة جيوبوليتيكية مماثلة تحدث ولكن لإعادة التقسيم والفدرلة والهندسة الجينية الجديدة وفقا لحسابات المصالح وتوازنات القوى، فبعد تهيئة العراق وسوريا لهذه المرحلة، يبدو أن الدور جاء على ليبيا، حيث انتقلت بؤرة الاهتمام الدولية فجأة وبدون سابق إنذار إلى هناك، وتحولت ليبيا إلى مركز لاهتمام الساسة والاعلاميين وعواصم صناعة القرار الغربي، وعقدت الاجتماعات مؤخراً واحداً تلو الآخر للبحث في تطورات الأزمة الليبية، وتناثرت تأكيدات بان أعداد "الدواعش" في ليبيا باتوا يفوقون أعدادهم في سوريا والعراق!
اللافت في المسألة أن ما يحدث في ليبيا هو دليل على غياب بوصلة الرؤية الاستراتيجية لدى الدول الأوروبية تحديداً، فليبيا ليست اليمن بالنسبة لأوروبا، بل دولة مشاطئة بالغة الأهمية لأسباب تتعلق بالهجرة غير الشرعية وخطر وجود تنظيم "داعش" الارهابي على الشاطىء الآخر من القارة الأوروبية، فضلا عن الثروات النفطية الليبية وما تمثله بالنسبة للاقتصادات الأوروبية. ومن ثم كان غريباً منذ البداية أن تغيب الإدارة الاستراتيجية للأزمة الليبية عن العواصم الأوروبية ذات الصلة المباشرة بليبيا وفي مقدمتها ايطاليا، التي انغمست في أزمة مع مصر في وقت تبدو كانت فيها حاجتها إلى التنسيق مع القاهرة أكثر من أي وقت مضى!
الان تذكرت القوى الكبرى ليبيا، وتذكرت أن هناك كثافة داعشية متنامية على أراضيها... وهذ صحوة متأخرة ولكنها جيدة من باب أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي بالمرة، ولكن ما يجب الانتباه إليه أن تحول ليبيا إلى نسخة مكررة من سوريا يمثل معضلة حقيقية بالنسبة للأمن القومي العربي، فلا مصر الشقيقة المجاورة تتحمل تدفقات اللاجئين الليبين والأجانب المقيمين في ليبيا إليها تحت ضغوط الصراعات العسكرية، ولا الجزائر وتونس ستسمحان بهذه التدفقات للدخول إلى حدودهما، ومن ثم قد يوضع الجميع في مواجهة مأزق أخلاقي يتجاوز مأساة اللاجئين السوريين.
وهنا، قد يكون من السهل على القوى الكبرى أن تتفق على تزويد ليبيا بالسلاح ورفع الحظر المفروض على الحكومة الليبية المعترف بها دولياً وحتى دعمها بغطاء جوي من أجل التصدي لخطر "داعش"، ولكن ما يجب الانتباه إليه بموازاة ذلك كله هو ايجاد آليات فعالة وكافية للتعامل مع أزمة جديدة للاجئين الليبيين.
ليبيا الدولة والشعب في خطر وجودي حقيقي، وهذه حقيقة ليست جديدة بل معروفة منذ أشهر طويلة مضت، بل إن الواقع يقول إن اكثر منطقة مهيأة لوجود تنظيم "داعش" فيها هي الأراضي الليبية لاعتبارات تتعلق بالثروة وحرية الحركة والفوضى والصراعات وغياب الدولة المركزية، وتفتت الجيش الليبي وانقسامه والصراعات القبلية والسياسية، ناهيك عن القدرة غير المحدودة لأطراف الصراع على الاختلاف والجدال السياسي الذي يتجاهل بيئة الأزمة ومصالح الشعب الليبي.
قد يبدو للبعض أن تركيز القوى الكبرى على ليبيا في الوقت الراهن سيدفع بانهاء الأزمة والتوصل إلى تسوية لها، ولكن الواقع يقول أن الهدف هو البحث عن المصالح وإدارة الأزمة وليس حلها، فالمتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية بيتر كوك قد ذكر مؤخراً أن القوات الخاصة الأميركية المنتشرة في ليبيا تكتفي بالعمل الاستخباراتي، وأن "الفرق الصغيرة" من القوات الخاصة الأميركية المنتشرة في ليبيا موجودة هناك "للتعرف على القوى القائمة" و"محاولة التعرف بدقة على نواياها"، مضيفا أن هذه الفرق لا تملك وجودا "دائما" في ليبيا وهي تدخل البلاد وتخرج". بينما تبحث دول الاتحاد الأوروبي عن توسيع مهمة قوتها البحرية قبالة ليبيا لتشمل احترام حظر الأسلحة المفروض على هذا البلد، وهي خطوة مهمة لمنع وصول الأسلحة إلى تنظيم "داعش"، ولكن الحقيقة ان هذا التنظيم موجود في ليبيا منذ نحو عامين كانت كافيتين لأن يراكم التنظيم ما يحتاج إليه من أسلحة وعتاد فضلا عما حصل عليه من الداخل الليبي من مسروقات جيش القذافي، ومنافذ التهريب الحدودية البرية الأخطر!!.
ما يحدث في ليبيا هو نموذج لضعف الاستجابة الدولية في التصدي لخطر التنظيمات الارهابية، حيث تحولت الأراضي الليبية إلى نقطة جذب لعناصر التنظيم من دول مختلفة تحت أنظار العالم أجمع، رغم خطورة وجود التنظيم في ليبيا تحديداً حيث يتيح له الموقع الجغرافي مخزوناً بشرياً هائلاً يتمثل في القارة الأفريقية التي يمكن جذب عشرات الآلاف من شبابها العاطلين عن العمل للانخرط في أنشطة التنظيم، الذي يداعب أحلامهم بالحديث عن "فتح روما"، كما قال أمير التنظيم في ليبيا خلال شهر مارس الماضي خلال مقابلة صحفية له تحدث فيها أيضاً عن تدفقات كبيرة من أعضاء التنظيم على ما يسمى بـ "ولاية ليبيا".
لن يتحمل الأمن القومي العربي مأساة جديدة في ليبيا، وخطر وجود تنظيم "داعش" وتوغله في هذا البلد سيثير أزمات جديدة تفاقم التعقيدات الاقليمية القائمة، ويبدو أن القوى الكبرى لن تأت بجديد على مستوى البدائل والحلول، بما يفرض على عواصم صناعة القرار العربية الفاعلة الآن تحدياً استراتيجياً جديداً يتطلب استجابة مناسبة.