تواجه دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في المرحلة الراهنة تحديات وتهديدات استراتيجية متباينة من حيث الأبعاد والتأثيرات والأهداف، وقد نجحت دول المجلس في التصدي لبعض هذه التهديدات مثلما حدث في اليمن الشقيق، حيث نجح التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية في وقف الزحف الحوثي المدعوم من ميلشيات المخلوع علي عبد الله صالح وإيران، والذي كان يستهدف السيطرة على الدولة اليمنية تنفيذاً لإرادة وخطة إيرانية لإحكام طوق السيطرة الاستراتيجية حول دول مجلس التعاون.
البيئة الاقليمية من حولنا شهدت السنوات القلائل الأخيرة ـ ولا تزال ـ ما يمكن وصفه بتزاحم لافت للتهديدات الاستراتيجية، فهناك خطر تنظيمات الارهاب وجماعاته المنتشرة في دول عدة من حولنا، ومنها سوريا والعراق ولبنان وليبيا واليمن، وهناك بؤر انتشار جغرافية للارهاب قابلة للتمدد والتوغل في دول عربية أخرى مهمة، وهناك مخططات ومشروعات توسعية واضحة لقوى اقليمية مثل تركيا وإيران، وهناك مساع حثيثة من تيارات سياسية وفكرية عربية تنظر بعداء لتجربة دول مجلس التعاون التنموية لا لشىء سوى لأن هذه التجربة لا ترفع الشعارات الأيديولوجية التي تتبناها هذه التيارات المنقرضة تاريخياً، بل إن روادها في العالم يعيدون النظر في أفكارهم وتخلى بعضهم عنها في مواجهة تيارات العولمة العاتية، التي جرفت أنصار مدارس التنظير الفلسفي التي انتشرت في عقود مضت.
المهم أن البعض يحاول أن يوظف هذه التهديدات في الضغط على دول مجلس التعاون، ومحاولة تأليب القوى الكبرى ضدها، متخذاً مداخل وملفات مثل العمالة الوافدة وغير ذلك، واستغرب أن يركز هؤلاء على نتاج جهود العمالة الأجنبية في دول مجلس التعاون، ويستعرض انجازاتها متجاهلاً أننا نعيش في قرية كونية صغيرة، وأن "عائدات" عمل ملايين العمال الأجانب في دول مجلس التعاون لا تقتصر على المجالات التنموية في هذه الدول فقط، بل تطال الدول المصدرة للعمالة أيضاً، وربما بنسبة ومعدلات تفوق في تأثيرها الايجابي ما تحقق في دول مجلس التعاون، فالتحويلات المليارية الشهرية التي تضخ في شرايين اقتصادات الدول الموردة للعمالة باتت ركيزة أساسية لا غنى عنها لهذه الاقتصادات، وبالتالي فإن جردة الحساب النهائية تكشف أن هناك مصالح مشتركة ومتبادلة، ومن غير المنطقي أن تحاول تيارات معينة الاساءة إلى دول مجلس التعاون متجاهلة دور هذه الدول في امتصاص فائض العمالة والقوى البشرية الهائلة في دول أخرى!
اعتقد أن اثارة اللغط حول الصورة النمطية لدول مجلس التعاون باتت له مواسم إعلامية وسياسية متعارف عليها، أشهرها الاوقات الي تسبق القمم الخليجية ـ الأمريكية، ولا أدرى لماذا يعتقد البعض في عالمنا أن القرار الخليجي يصدر من العاصمة الأمريكية، واشنطن، رغم أن التنسيق الاستراتيجي القائم بين العواصم الخليجية والجانب الأمريكي لا يتجاوز أي علاقات تحالف استراتيجي تجمع الولايات المتحدة مع دول أخرى عديدة، في مقدمتها دول الاتحاد الأوروبي.
صحيح أن هناك علاقات تحالف قوية بين دول مجلس التعاون والولايات المتحدة، ولكن هذا الأمر لا يعني بالضرورة غياب لاستقلالية القرار الخليجي، ولعل عملية "عاصفة الحزم" في اليمن خير برهان على قدرة دول مجلس التعاون على التحرك منفردة للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية، فلم تكن واشنطن لتدعم هذه العملية التي جاءت في توقيت بالغ الحساسية بالنسبة للعلاقات الايرانية ـ الأمريكية. وقد شهدت السنوات الأخيرة سريان مياه وافرة في قناة العلاقات الخليجية الامريكية، فلم تعد تجري بالوتيرة ذاتها، حيث تتحسب دول مجلس التعاون للتقارب الامريكي ـ الايراني وتأثيراته في مصالح هذه الدول، ولهذا رأينا ردة فعل قوية من السعودية، التي وصلت إلى حد رفض مقعد مجلس الأمن، وتحدث الأمير بندر بن سلطان من قبل عن تغير أساسي في العلاقة مع واشنطن، بالرغم من تأكيد واشنطن المتكرر التزامها بأمن دول الخليج.
ولو أخدنا دولة الامارات العربية المتحدة كنموذج لجملات الاستهداف والاساءة التي تشنها جماعات ارهابية ونخب فكرية وسياسية عربية عفا عليها الزمن لوجدنا أن الاستهداف في هذه الحالة تحديداً يصوب سهامها باتجاه النموذج التنموي الحضاري الفريد الذي نجحت القيادة الاماراتية الرشيدة في بلوغ ذروته والحفاظ على تمايزه وسط بيئة اقليمية صراعية لا تفرز سوى عوامل الاحباط واليأس ولا تنتج سوى مهدئات تنموية غير قادرة على التماسك والبقاء في مواجهة التحديات المتسارعة.
لا اعتقد أن الاستهداف الاعلامي والسياسي يزعج دولة الامارات تحديداً، فما يمتلكه النموذج التنموي الاماراتي من مقومات وركائز ومكامن قوة وتفرد يمنحها تفرداً نوعياً هائلاً يجذب إليها معجبون ومؤيدون وحالمون أكثر بكثير من الحاقدين والكارهين، وتكفي الاشارة إلى بعض القرائن العلمية مثل "استطلاع أصداء بيرسون- مارستيلر السنوي السابع لرأي الشباب العربي"، الذي أظهر العام الماضي ، وللعام الرابع على التوالي، أن 20% من الشباب العربي يرغبون في العيش في دولة الإمارات التي احتلت صدارة قائمة ضمت 16 دولة تأتي بعدها الولايات المتحدة في المرتبة الثانية بنسبة 13%، تليها كل من كندا وألمانيا في المرتبة الثالثة بنسبة 10% لكل منهما، في حين حلت كل من قطر والسعودية وفرنسا في المرتبة الرابعة بنسبة 8%. كما أعرب نحو 22 % من عينة الاستطلاع من الشباب العربي عن رغبتهم في أن تحذو بلادهم حذو الامارات كنموذج للنمو والتطور.
وفي ضوء ماسبق، تبدو الامارات مثل بارقة ضوء تعطي الأمل في نجاح عربي أوسع، وفي مقدرة الانسان العربي على ترجمة أحلامه إلى واقع، وايجاد البيئة الإيجابية المحفزة على النجاح والابتكار وتطوير القدرات والاستفادة من الطاقات الكامنة، فالعام الماضي 2015 كان عاماً للابتكار، حيث وضعت خطط متكاملة لتحويل الابتكار إلى ثقافة مجتمعية وعمل مؤسسي بات بمنزلة الأمل للشباب العربي الطامح إلى حياة أفضل.
استهداف "النموذج" في منطقة الخليج العربي بات اللعبة المفضلة والأثيرة لدى تنظيمات وتيارات وجماعات ودول بعينها، ولكن الشعوب تبقى واعية لما يدور من حولها وتتطلع إلى الأفضل في وسط اقليمي مشبع بالاحباط، لذا فإن بريق "النموذج" سيظل يصنع الأمل وينير الطريق لعشرات الملايين في هذه المنطقة.