بعد عقد ونصف بالتمام والكمال من انطلاق أول صحيفة الكترونية في العالم العربي، وهي صحيفة "إيلاف"، هناك تغيرات كثيرة طرأت على المشهد الاعلامي العربي، فقد كانت "إيلاف" في بدايتها تشق طريقاً صعباً ووعراً ولكنها استطاعت منذ البدايات الأولى أن تنحت لنفسها شخصية إعلامية مستقلة ومميزة، وهذا بحد ذاته مكسب مهني كبير يحسب لمؤسسها وفريق العمل القائم عليها.
لا أنكر أن "إيلاف" كانت تفاجئنا كثيراً ـ كقراء ـ في بداياتها الأولى بنهجها الجرىء المتفرد في تناول الموضوعات والقضايا، وكان البعض من معالجاتها الاعلامية يثير الجدل والنقاشات الواسعة بين المثقفين والمهتمين، ولكن ظل هذا الجدل وتلك النقاشات علامات صحة وعافية على أن للصحيفة شخصيتها المميزة وخطها التحريري الواضح، التي لا تساوم عليه ولا تغير فيه، وهذه بحد ذاتها أيضا سمات جيدة في الأداء الاعلامي المهني.
طيلة تلك الفترة الطويلة نسبياً، ظهرت مواقع وصحف الكترونية لمعت كالشهب ولكنها ما لبثت أن انطفأت وصار بعضها رماد بينما لم تعد تدرك الأبصار بعضها الآخر من فرط تراجعها وانحسارها المهني والفكري والاعلامي، ولكن "إيلاف" بقيت متماسكة قادرة على التطور المهني المحسوب صامدة في وجه المنافسة الشرسة محتفظة لنفسها بشريحة من القراء، وهذه سمة من أهم سمات الرصانة في الأداء الاعلامي.
"إيلاف" هي حقيقة الأمر "مدرسة" في الصحافة الالكترونية العربية، ولها روادها ومحبيها والمعجبين بها، وأصبحت علامة مميزة في الأداء المهني سار ورائها الكثيرون وقلدها كثيرون ولكنها بقيت وسط هذا الزخم الاعلامي علامة فريدة في مجالها وادائها.
لا أكتب هنا مجاملة لـ"إيلاف" أو دعماً لها، فقد باتت "مؤسسة" في موقع، وبات لها من التأثير الجماهيري ما عجزت مؤسسات إعلامية عربية ضخمة عن تحقيقه رغم توافر ميزانيات هائلة وأعداد ضخمة من البشر والكوادر التي تعج بها عشرات الأدوار والمباني الضخمة، التي تحولت إلى عبء على الأداء الاعلامي لدول عربية عدة، ولم يعد هناك فائدة ترجى منها سوى "إيواء" هذا الكم الضخم والعدد الكبير من البشر.
مرور عقد ونصف على تأسيس "إيلاف" ربما يكون مناسبة لفحص حالة الاعلام العربي الالكتروني، لاسيما أن المشهد الاعلامي العربي يعج بفوضى عارمة ربما استعصى البعض منها على الحل، وتحول الفضاء الالكتروني إلى "غابة" من المواقع والصحف التي يزعم الكثير منها أنها "إعلامية" في حين أنها لا تتماش مع الأداء المهني الاعلامي المحترف سوى بالالفاظ فقط، واستباح البعض من هذه المواقع الالكترونية قوانين الملكية والحقوق الفكرية، فضلا عن الخصوصيات الشخصية والقواعد المجتمعية المستقرة في كثير من الحالات.
الحقيقة أيضاً أن مفهوم الصحيفة الالكترونية لم يستقر في كثير من الحالات في عالمنا العربي، فالملاحظ أن البعض يتعامل مع فكرة الصحافة الالكترونية باعتبارها مجرد نسخة الكترونية من الصحيفة الورقية، تعاني نفس الأعراض والإشكاليات والأزمات والأمراض المزمنة التي تعانيها الصحف الورقية منذ سنوات وعقود مضت، وليس هناك مايبرهن على أن هناك جدية في الاستفادة من سمات وخصائص النشر الالكتروني، عدا التهافت الهائل والاقبال المزعج على نشر أعداد هائلة من صور ومناسبات مختلفة حتى أن بعض الصحف العربية قد تخصص في نشر صور حفلات الخطوبة وعقد القران والافراح للمقربين والمشاهير وتدهور بها الحال حتى أصبحت مثل صحف ومجلات الحائط القديمة، التي كانت تنشر صور المناسبات الاجتماعية للعاملين بالمؤسسات والشركات!!
قليلة هي الصحف الالكترونية العربية التي تدرك حقيقة معنى ومراد الصحيفة الالكترونية، وأن لها شخصية وأداء ومعايير مهنية مختلفة تماماً عن الصحيفة التقليدية أو الورقية، والمؤكد أن محدودية التطور في أداء الصحف الالكترونية العربية يلعب دوراً كبيراً في بقاء الصحف الورقية العربية على قيد الحياة حتى الآن على خلاف ما يحدث في العالم من حولنا.
صحيح أن هناك اعتبارات وعوامل مجتمعية متشابكة تسهم في ابقاء الصحف الورقية العربية على قيد الحياة مثل ضعف انتشار الانترنت في كثير من الدول العربية بشكل عام ومحدودية انتشاره جغرافياً في دول أخرى، لاسيما ما يتعلق بالانترنت الشخصي أو المرتبط بالأجهزة الهاتفية الذكية القادرة على التواصل والتفاعل المباشر مع الاعلام الالكتروني، وهذا بحد ذاته يرتبط بمعدلات التعليم والوعي والعامل الاقتصادي وغير ذلك. كما أن هناك عوامل تتعلق بحسابات السياسة والبعد الاجتماعي الذي يغذي نزعة الاحتفاظ بمؤسسات إعلامية عتيقة يعمل بها عشرات الآلاف من الأشخاص لا يؤدون عملاً حقيقياً. كما أن هناك نظرة تقليدية متجذرة في بعض الدول وتقوم على أن الإصدار هو برهان الحقيقة، أي أن مجرد طباعة مجلة أو صحيفة هو دليل عافية الدول وبقائها وتأثيرها الثقافي في محيطها الجغرافي بغض النظر عن اعتبارات التوزيع وحسابات الجدوى الاقتصادية التي باتت عنصر الحسم في الأداء الاعلامي الحديث، لاسيما إذا انتفى التأثير الحقيقي كهدف يفترض أن يؤديه الاعلام بشكل عام.
هناك تجارب إعلامية عربية ناجحة ولاشك في عالم الصحافة الالكترونية، ولكنها تبقى محدودة من حيث العدد، وتبقى "إيلاف" علامة مميزة وسط هذا التنافس والتسارع والتزاحم الهائل في السوق الاعلامي العربي.