لا خلاف على أن عمل تنظيمات الارهاب بل الصورة الذهنية للارهابي ذاته في الوقت الراهن باتت تختلف كثيراً عن نظيره في حقبة التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والاختلاف يتمحور بالأساس حول الأهداف وآليات العمل ووسائل التجنيد والاستقطاب، ومن ثم فإن هذا الاختلاف يفرز بالتبعية تغيرات في طبيعة "العنصر" الارهابي وهويته ومستوى ثقافته، بل والبيئة التي يجلب منها أيضاً.
هذه الاختلافات تمثل في أحد جوانبها الفوارق القائمة بين تنظيمي "القاعدة" و"داعش"، فالثاني هو التطور الجيلي للأول، وهو امتداد لايلغيه، بل ينشق عنه فكرياً وتنظيمياً، فالأجيال الارهابية لا ينسخ بعضها بعضاً بحكم تحجرها الفكري والأيديولوجي، ولكن تمضي جنباً إلى جنب وتتنافس في ساحات الارهاب، وأحياناً تتحالف، ولكنها تمضي في مسارات متوازية لا متقاطعة لفترات زمنية معينة تنتهي إما بانقضاء الأفكار وتقادمها وثبوت فشلها كما حدث مع جماعات الارهاب في عصور تاريخية سابقة، أو بحلول أمنية تؤدي إلى كمون الفكرة مرحلياً تمهيداً لظهورها مجدداً على يد آخرين كما حدث في بعض التنظيمات التقليدية إبان عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين في مصر، أو بتطور الأفكار وظهور جيل ينطلق من القديم ويبني عليه ويطور الفكرة ذاتها أو ينشق عليها مستغلاً أدوات العصر وتقنياته في الترويج للفكر الارهابي كما حدث في حالة "داعش".
ما يزعجني شخصياً، أن بعض المتخصصين ممن يتحملون مسؤولية التصدي للفكر الارهابي إعلامياً وثقافياً لا يأخذون بالاعتبار المتغيرات الطارئة على الظاهرة الارهابية، وينطلقون في عملهم من معطيات قديمة، فتجدهم في كثير من الأحيان يخاطبون "جمهور" ليس له وجود، وبالتالي يتحولون إلى مخاطبة الذات وسماعها، ولا صدى لعملهم. تحديد الجمهور وسماته وشرائحه العمرية وثقافته وغير ذلك من معطيات مسألة بالغة الأهمية في العمل الاعلامي بشكل عام، ولكنها لا تأخذ حقها في الجهود الاعلامية والثقافية الخاصة بمواجهة الفكر الارهابي والتطرف بشكل عام.
منذ سنوات قلائل مضت، كان البعض يأخذ على جهود التوعية الرسمية أنها تنفذ بأدوات غير فعالة، فأحياناً يختار رجل مسن لمخاطبة جيل وسائل الاتصالات الذكية، فيصبح المشهد في مجمله نوع من العبثية وهدر الطاقات والجهود والوقت والأموال، وأحياناً تمضي جهود التوعية عبر قنوات مغلقة او في أحسن الأحوال غير فعالة فلا تجد جمهورها المستهدف، بل تُسمع في أغلب الأحوال أناس من أصحاب القضية والمدافعين عنها، ويصبح المشهد أيضاً نوع من الأداء التقليدي الساذج.
أحد مظاهر القوة الرافعة لتنظيم "داعش" الارهابي يتمثل في الاعلام والدعاية، فالتنظيم يختلف عن الأجيال السابقة من التنظيمات المماثلة على مستوى الأهداف في تبني فكرة "الخلافة"، وعلى مستوى التجنيد والاستقطاب في العمل من خلال العالم الافتراضي، واستخدام وسائل الاتصالات والدعاية والاعلام الحديثة بمهارة وتقنية وحرفية بالغة، ساعده في ذلك مقدرته على جذب عناصر من الارهابيين الجدد الذين تلقوا تعليماً جيداً ومنهم من عاش في الغرب ويتقن العديد من اللغات، فكان من اللافت أن تجد اصدارات إعلامية الكترونية صممت بتقنيات مبهرة وتحرر بلغات عدة تضمن لها أوسع قاعدة من الانتشار في مناطق ودول شتى من العالم.
وفي ضوء ماسبق، استغرب كثيراً من الاصرار على الانطلاق في مكافحة الارهاب من الصورة النمطية القديمة للارهابي، بل اختزاله في مظهر تقليدي محدد، يذكرنا بالافلام العربية القديمة التي كانت تظهر اللصوص و"المخبرين" وغيرهم دائما في ملابس محددة لا تتغير، فرسخت في أذهان المتلقين صور نمطية ساذجة. الارهابي وفقاً لما يتحدث عنه بعض المهتمين في الدول العربية والاسلامية وتروج له وسائل الاعلام والمحتوى الدرامي المتداول هو شخص يرتدي جلباباً أبيض قصير وله لحية كثيفة طويلة، متجهم الوجه حاد النظرات!! خطورة ترسيخ هذه الصورة النمطية أنها تخدم أهداف داعش تماماً وتصب في مصلحتها، فلا يكاد التنظيم يبذل أي جهد من أجل نشر عناصره الارهابية وتنفيذ جرائمه في الأشهر الأخيرة.
أحد البراهين على ماأقول، أن معظم الاعتداءات الارهابية الأخيرة في دول عربية وإسلامية وغربية عدة قد نفذها ارهابيون بمظهر لا علاقة له بالصورة التقليدية سالفة الذكر، بل إن شهود العيان قالوا عن أحدهم أنهم كانوا لا يعرفون أنه مسلم من الأساس نظراً لعلاقاته النسائية ومغامراته الليلية وارتياده البارات والأندية الليلية!
قد يقول قائل أن أمثال هذا الارهابي يمارسون نوعا من "التضليل"، أو أنهم يطبقون تكتيكات تحرف الأنظار عن أفكارهم ونواياهم الحقيقية، وقد يكون ذلك جزء من الحقيقة وليس كلها، فالارهاب بات مظلة وليس محصور في أصحاب الفكر الضال والمتعاطفين معه، بمعنى أن تنظيمات الارهاب لم تعد معنية أو مهتمة بتجنيد أناس يتبنون أفكارها وملتزمون أيديولوجياً وطائعون فكرياً وخاضعون تماماً لها، بل تحول الأمر إلى نوع من "البزنس"، الذي تستغل فيه الظروف السيكولوجية والاجتماعية لبعض الأفراد وتقوم باغرائهم بالمال لتحقيق أهداف تتطابق في الواقع مع أهداف الارهاب مثل الرغبة في الانتقام من المجتمع مثل بعض المهاجرين الذين يعانون إشكاليات الاندماج والصهر الاجتماعي في دول أوروبية.
ما يهمني أيضاً أن الدوران في فلك ترديد مصطلحات أيديولوجية معينة من دون إدراك حقيقي للفوارق المفاهيمية ومن دون فهم دقيق لجذور الارهاب ومنابعه الفكرية، يجعل جهود مكافحة الارهاب تدور في حلقة مفرغة، من دون اي مقدرة على بناء توقعات استباقية أو اكتشاف مبكر للعناصر البشرية المرشحة للخضوع لتأثير الدعاية الداعشية من المتعاطفين مع أفكاره وهي مرحلة تسبق الانخراط الفعلي في صفوف التنظيم، ناهيك عن ملاحقة "صفقات" التنظيم المحتملة لتنفيذ جرائمه الارهابية.
والخلاصة أننا لن نستطيع أن نحارب "داعش" بأدوات سبق أن خضنا بها الحرب ضد "القاعدة"، فالمتغيرات تتراكم والمعطيات تتجدد، ويبقي أن يجدد المعنيون أفكارهم وتصوراتهم لوضع الخطط السليمة في مواجهة الارهاب.