تابعت في الآونة الأخيرة ردود أفعال وسجالات ساذجة، بل محزنة حول موقف لاعب عربي تجاه منافسه الاسرائيلي في لعبة رياضية كانا يشاركان في منافساتها تحت العلم الأولمبي. وكعادتنا في السنوات الأخيرة، بات من المستحيل التوصل إلى نقطة توافق أو حتى شبه تقارب في الآراء حول الأحداث والمواقف والتصرفات، كما لم يعد هناك إقرار واعتراف بالمعايير والقواعد حتى لو ارتضينا أن نشارك في الدورات الأولمبية، ونحلم بالحصول على ميدالية أو أكثر فيها.
شريحة من المجادلين حول خسارة لاعب الجودو العربي أمام منافسه الاسرائيلي ثم رفضه مصافحته في نهاية المباراة مضت تكيل الشتائم والسباب للاعب العربي سواء على سلوكه "غير الرياضي"، أو على أدائه الرياضي الضعيف في مواجهة خصمه الاسرائيلي. وفي المقابل كانت هناك شريحة أخرى تنتصر للاعب وترى في رفضه المصافحة اعلاء لراية الاسلام ورفض للتطبيع وتأكيد على عمق العداء مع إسرائيل! ووسط هذا الجدال العقيم تاهت الحقائق وغابت المسلمات وانتصرت الانفعالات اللحظية على التفكير العقلاني، وتحولت مباراة رياضية إلى ساحة للمبارزة السياسية السخيفة.
بداية، لست من دعاة التطبيع مع إسرائيل، وأعلنها صراحة كي لا يزايد علي أحدهم في تعقيبات أو تعليقات يكفيني منها ما أتوقعه من قدح وذم، ولكني فقط أطرح تساؤلات اعتقد أنها منطقية ومشروعة: لمَ التركيز على هذه المباراة رغم أنها لم تكن المواجهة الاولى لرياضيين عرب، بل للاعب نفسه مع نظرائهم الاسرائيليين في بطولات مختلفة طيلة السنوات الماضية؟ ثم ما علاقة المصافحة "الرياضية" التي تتم تحت العلم الأولمبي بتطبيع العلاقات الرسمية بين الدول والشعوب؟ ألم نخسر كثيراً حين ظهر لاعب عربي على الملاً العالمي رافضاً مصافحة نظيره الاسرائيلي في مباراة رياضية لن تقدم ولن تؤخراً في مسلمات الصراع وثوابته التاريخية والاستراتيجية؟ إلى متى نتعامل مع العالم من حولنا بنفس الخطاب الشعبوي الانفعالي؟ ألا ندرك أننا نعيش عصر صراع الصورة وأن هذا المشهد البائس يحتاج إلى حملات علاقات عامة باهظة التكلفة وربما تمتد لسنوات كي نقنع العالم من حولنا بأننا أمة تسعى إلى السلام وترغب فيه؟
إلى متى نربي أجيالنا الجديدة على قيم مغلوطة ومفاهيم خاطئة؟ فالمصافحات الرياضية في الأولمبياد تأكيد على الروح الرياضية، وليست رسائل سياسية ولا تعني تحقق السلام الدافيء كما يزعم البعض، والمزاوجة بين الرياضة والدبلوماسية، وإذا كان ما يسمى بدبلوماسية "البينج بونج" بين الولايات المتحدة والصين قد لعب دوراً في التقارب التاريخي بين البلدين، فإن "دبلوماسية الكريكيت" بالمقابل لم تفلح مطلقاً في تحقيق أي اختراق في العلاقات بين الخصمين النوويين اللدودين في الجنوب الآسيوي، الهند وباكستان رغم المباريات العديدة بين فرق الدولتين!!. كما لايجب أن نتجاهل أن هناك فارق بين أن توظف الرياضة لخدمة السياسة بموجب تخطيط مسبق من جانب القادة السياسيين، وبين أن يواجه لاعبين أو فريقين بعضهما البعض في بطولات رياضية بموجب نظام القرعة أو بحسب نظام البطولة وغير ذلك من معايير لا علاقة لها بحسابات السياسية وتعقيداتها.
موقع اسرائيلي شهير نشر صورة رفض المصافحة معتبراً إياها ملخص للصراع التاريخي بين العرب وإسرائيل، أي أنه وظف الصورة لنقل رسالة أو فكرة إلى العالم بأن إسرائيل حمامة سلام وديعة تعيش وسط جيران يصرون على العداء ويرفضون العيش في سلام. وقد تكون هذه هي الحقيقة أو لا تكون ليس هذا هو "مربط الحصان" كما يقولون، ولكن المهم أن سلوك فردي يمكن أن يبلور ويكرس صورة نمطية سلبية قد تمتد لسنوات وعقود ملتصقة بدول وشعوب بأكملها!
والحقيقة هنا أن فوز اللاعب العربي أو هزيمته لا تعني الكثير للقضية الفلسطينية، فالمحبطون واليائسون فقط هم من يسعون إلى انتصارات وهمية يداعبون بها عواطف الشعوب ويدغدون بها مشاعرهم، فالفوز لم يكن يعني بالتبعية تحريراً للقدس ولا انهاء لاحتلال الأراضي الفلسطينية، ولا زوالاً لإسرائيل كما يروج تجار الدين والسياسة في وسائل إعلامهم الساقطة، والهزيمة لا تعني بالمقابل انكساراً لملايين العرب ولا انهيارأ للدول، والنتائج الرياضية تبقي فقط في سجل الانجازات الرياضية.
ما يهمني أيضاً أننا نتابع الرياضة ونتجاهل حقائق مهمة منها أن التفوق الرياضي ليس سوى مرآة للتفوق في مجالات تنموية اخرى، أو هو على أقل التقديرات تميز على مستوى التخطيط والتدريب والتأهيل البدني والرياضي، ومن ثم فإن الرسالة التي يجب أن نستوعبها من هذه المشاركات تكمن في موقعنا كعرب بين الدول التي تشارك في مثل هذه الفعاليات الرياضية.
ثم أيضاً لماذا نغضب من هزيمة في مواجهة اسرائيلي ولا نستفز من هزيمة أمام لاعبين او فرق ينتمون لدول أخرى، أتفهم أن لإسرائيل وضعية وظروف استثنائية، فهي دولة لا تزال تصنف في دائرة العداء بالنسبة لمعظم الدول العربية، بينما هناك دول عربية أخرى تمتلك علاقات رسمية معها، ولكنني اعتقد أن الهزيمة في كل الأحوال هي هزيمة ويفترض أن لها الآثار النفسية ذاتها، ومن ثم يبدو من اللافت أن يكون حجم هذه الآثار مرهون بوضعية المنافس ومكانته فقط لا بالهزيمة ذاتها وضياع حلم الانتصار والفوز بالجوائز والبطولات!
صراع العرب الحقيقي مع إسرائيل ليس صراعاً في ساحات الرياضة بالتأكيد، بل هو صراع وجود مصيري يرتبط بالهوية والانتماء، وهو قضية حق وعدل لها أسانيدها في القانون والتشريعات الدولية، كما أن للصراع وجه آخر في ساحات العلم والانتاج والابتكار والتقنيات، وأشعر باستغراب شديد إزاء تجاهلنا للتفوق الاسرائيلي الهائل في قطاع مثل صادرات التقنية والتكنولوجيا ونكتفي بالبحث عن انتصار يرضي الغرور على بساط رياضي لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار.
لا أنكر وجود روابط عاطفية أو وجدانية بين الرياضة والمتغيرات الأخرى مثل السياسة أو الصراعات المصيرية بين الشعوب والأمم وغيرها، ولكن علينا أن نكون عقلانيين ونضع الأمور في نصابها، وإن استطعنا أن نكسب منها فلنفعل، وإن لم نستطع فلنخرج بأقل الخسائر أو لنصمت أثابنا وأثابكم الله.