منذ محاولة الانقلاب التركية الفاشلة في منتصف يوليو الماضي، تشهد المنطقة تحركات متسارعة قطعة الشطرنج الشرق أوسطية تبدو تركيا اللاعب المحوري فيها، فهناك تقارب بين أنقرة وموسكو، وهناك تفاهمات تجري بين تركيا وإيران، وما يقلقني ليس هذه التحركات بحد ذاتها، ولكن الخشية من عواقبها وتداعياتها على المنطقة بعد أن اعتدنا طيلة السنوات الأخيرة أن تدفع دولنا العربية فاتورة تقاسم النفوذ والمصالح الاستراتيجية بين القوى الاقليمية والكبرى.
في السنوات الأخيرة، تحاورت إيران والقوى الكبرى ضمن مايعرف بمجموعة "5+1" حول مصير البرنامج النووي الايراني وتم توقيع اتفاق يبدو تنفيذه محفوف بالعقبات ومستقبله مرهون بالخارطة السياسية القادمة في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه يظل في مجمل الأحوال تطور مؤثر وذا علاقة وطيدة بالمصالح الاستراتيجية للدول العربية، لاسيما دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي استبعدت عن عمد من المشاركة في جولات المفاوضات رغم وجود نقاط تماس عدة مع الملف النووي الايراني.
والآن، هناك تحركات على النسق ذاته يغيب عنها الطرف العربي تماماً رغم أن تقاسم المصالح والنفوذ هذه المرة يتمحور حول جزء غال من العالم العربي، والحديث هنا عن سوريا بالأساس.
وزير الخارجية التركي مولود جاويش أعلن يوم الجمعة الماضية، أن "أمن واستقرار إيران من أمن واستقرار تركيا" وإن بلاده تدرك أن إيران تنظر إلى أمن واستقرار تركيا بنفس الشكل، وهذا الاعلان من الحقوق السيادية للدول وليس لنا شأن به، فمن حق أي دولة أن تشارك من تشاء في منظومة تحالفاتها التكتيكية والاستراتيجية، ولكن الجميع يدرك مغزى هذا الحديث العميق في ظل تحالفات تركيا الاقليمية واشتباكات إيران وصراعاتها الاقليمية أيضاً.
وبمدخل أكثر صراحة: هل يمكن لتركيا أن تحتفظ بعلاقات تحالف استراتيجية مع المملكة العربية السعودية الشقيقة بالتوازي مع ترقية العلاقات الايرانية ـ التركية إلى المكانة المشار إليها في تصريح الوزير التركي؟ في ظني أن هذا التوازن أمر صعب ومعقد ما لم يكن بنية الأتراك تقريب وجهات النظر وتسوية الخلافات بين طهران والرياض، وهذا أمر غير مرجح في ظل الشواهد الراهنة على أقل التقديرات.
أثق تماماً أن تركيا بعد المحاولة الانقلابية غير تركيا قبلها، بغض النظر عن الجدل السياسي العقيم حول ظروف وملابسات هذه المحاولة والمزاعم المثارة حولها من أطراف وجهات عدة، فالرئيس رجب طيب أردوغان بات اللاعب الاقليمي الأكثر تحركاً على الساحة الشرق أوسطية، واكتسب من المحاولة الانقلابية تصميماً جديداً على تحويل المحنة إلى منحة، لاسيما بعد أن كشفت استطلاعات الرأي تزايد شعبيته بشكل كبير منذ منتصف يوليو الماضي.
على خلاف كثير من التوقعات التي رجحت انكفاء تركيا على ذاتها وانشغالها بمشاكلها الداخلية خلال المدى المنظور، خرجت القيادة التركية من المحاولة الانقلابية لتعيد ترتيب تحالفاتها الاقليمية والدولية وفقاً للدروس المستفادة والمعطيات التي أفرزتها المحاولة الانقلابية، بغض النظر أيضاً عن أي جدل حول ظروفها وملابساتها، وهناك مساع حثيثة لتوظيف معطيات هذه المرحلة في كسب أرض جديدة لمصلحة استراتيجيات تركيا الاقليمية، وعلى أساس هذه المعطيات تمضي تحركات الرئيس أردوغان في الخارج، فبالأمس القريب استعادت تركيا زخم علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا، ثم استكملت حلقات محور اقليمي جديد قيد التشكل باستضافة وزير خارجية إيران والاعلان عن تقارب غير مسبوق في العلاقات الثنائية.
المؤكد في المشهد الراهن أن بناء التحالفات التركية الجديدة يمضي على قاعدة بوصلة المواقف تجاه المحاولة الانقلابية الفاشلة، فتركيا باتت تحب وتكره وتتقارب وتتباعد وفقا لردود أفعال الأطراف الاقليمية ليلة الانقلاب، فهي لم تنس للجانب الأمريكي تردده لساعات بين دعم الانقلابيين والدفاع عن الشرعية الدستورية القائمة في تركيا، كما لم تنس للاتحاد الأوروبي أنه خذلها في تلك الليلة!!
على الجانب المقابل تقف روسيا في مقدمة من اعتبرت القيادة التركية داعمين لها في تلك الليلة الفارقة، فهي من أمدت القيادة التركية بمعلومات عن الانقلاب وتحركات الانقلابيين وفقا لتقارير إعلامية موثوقة، بينما ظل موقف إيران ضبابياً إلى حد ما حتى أماط الوزير جاويش أوغلو اللثام عن بعض ما جرى في تلك الليلة الكاشفة حيث قال جاويش أوغلو إنه ونظيره الإيراني "لم يناما طيلة الليلة التي شهدت محاولة الانقلاب"، وإن ظريف اتصل به في تلك الليلة "من 4 إلى 5 مرات"، ليطمئن على الأوضاع في تركيا، كما اتصل به للسبب ذاته عدة مرات في اليوم التالي لمحاولة الانقلاب. وهنا أيضاً لايجب تجاهل مغزى تصريح الرئيس أردوغان الذي قال فيه " "إننا اليوم عازمون أكثر من أي وقت مضى، على أن نسير جنب إلى جنب مع إيران وروسيا، لنساهم بالتعاون معهما في حل القضايا الدولية، كما أننا مصممون على تكثيف الجهود الرامية إلى استعادة السلام والاستقرار في المنطقة".
المتوقع ألا يكون هناك خلاف كبير حول تسوية الأزمة السورية بين روسيا وتركيا وإيران، فما يلوح من مصالح استراتيجية لأطراف هذا المحور الثلاثي الجديد تفوق بمراحل أي تنافس حول المصالح في سوريا، بل إن مصير نظام الأسد قد يكون محور تفاهمات جديدة ترحب بها تركيا، لاسيما ما يتعلق بمرور الغاز الايراني إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، فضلاً عن أن الرئيس أردوغان يريد بناء تحالف تكتيكي يلعب دور المعادل الموضوعي او الداعم الاستراتيجي لتركيا حتى ينتهي من إعادة هيكلة علاقات بلاده وفق أسس جديدة مع الاتحاد الأوروبي تحديداً.
الواضح أن المنطقة تعيش مخاض تشكل محاور وتحالفات اقليمية جديدة، قد تكون تكتيكية أو استراتيجية، لا فرق الآن، ولكن النقطة المحورية أن الدول العربية تبدو غائبة عن المشهد لأسباب قد لا يكون لها علاقة بها، أو لأن الظروف قد أبعدتها عن المشاركة، ولكن تداعيات ما يحدث تبدو مكلفة استراتيجياً، وسيكون لها صلة وثيقة بمصالح الدول والشعوب العربية، حالياً ومستقبلاً، وهنا تبدو المعضلة الاستراتيجية التي يتعين على العواصم العربية الفاعلة والمؤثرة في الوقت الراهن التعاطي معها بحكمة وهدوء وفاعلية؛ فأي ترتيبات اقليمية جديدة ستنتج حتماً أدوار جديدة وتغيرات في تصنيفات اللاعبين المؤثرين اقليمياً، وعلينا ألا ننتظر حتى بناء هياكل نظام اقليمي جديد، وعلينا أن نطرح أوراقنا ونوظف قدراتنا وطاقاتنا وعلاقاتنا ونتحرك سياسياً ودبلوماسياً في اتجاهات مختلفة للتأثير ايجاباً في تفاعلات المعادلات الاستراتيجية المرتقبة.