من خلال رؤيتهم لما يحدث من تطورات متسارعة في الأزمة السورية، يذهب الكثير من المراقبـين في الآونـة الأخيرة إلى القـول أن العـالم يتجـه إلى قطبيـة جـديدة تقـف على رأسها روسيا، وأن سيطرة الولايات المتحدة الأميركية على النظام العالمي القائم باتت من المـاضي، واعتقد، جـازماً، أن هذا الرأي بحاجـة إلى قـراءة متأنية لأنـه يتجـاهل أمورا عدة، ويرى وجهاً واحداً من الصورة.
ينطلق أصحاب وجهة النظر هذه في تحليلهم من انفراد روسيا بإدارة الوضع في سوريا، بالتنسيق مع كل من تركيا وإيران، حيث نجحت الأطراف الثلاثة في التوصل إلى وقف لإطلاق النار بين قوات النظام السوري من ناحية، والتنظيمات الإرهابية من جهة ثانية.
وهنا اعتقد أن الأزمة أكبر وأعقد من مجرد الاتفاق على وقف لإطلاق النار، فاحتمالات السلام تحتاج إلى ما هو أكبر من غياب المواجهات العسكرية كما وصف ذلك وزير الخارجية الألماني، فرانك فالتر شتاينماير.
صحيح أن وقف إطلاق النار يمكن أن يكون مقدمة لإطلاق مفاوضات سياسية بين الأطراف المتصارعة في سوريا، وهذا ما يخطط له في العاصمة الكازاخية أستانة أواخر يناير الجاري، ولكن علينا أن نرى ما وراء الأحداث في هذه الأزمة، وهناك الكثير مما يقال في هذا الصدد.
من بين الأمور اللافتـة في المشهـد السوري المعقد أن روسيـا نفسها قـد تعـرضت لضربات عدة قوية على يد الإرهاب في شهـر ديسمبر المـاضي، ومـن غيـر المنطقـي أن تسارع هي ذاتها إلى قيادة وساطة بين النظام السوري وتنظيمات الإرهاب، إلا إذا كانت ترى أن الزمن ليس في صالحها، وأن إدارة دونالد ترامب القادمة قد تـأتي باستراتيجية جـديدة ليست في مصلحة موسكو، بمعنى أنه من الطبيعي أن تتريث روسيا حتى يتسلم الرئيس ترامب مهام منصبه في العشرين من يناير الجاري، كي تستفيد من التوافق معه في تنفيذ “صفقة” مفيدة للطـرفين، الـروسي والأميـركي، على حد سواء.
ولكن الرغبة في الإسراع بحسم الأزمـة والتوصل إلى تسويات في عجالة تعكس قلقاً من الأطراف التي تسـابق الزمن الآن على الأرض السـورية، حيال نوايا الإدارة الأميركية الجديدة.
الواضح أن الاتفاق الذي تم برعاية روسية-تركية لا يمتلك مقومات حل الأزمة نهائيا لأسباب واعتبارات عدة.
أول الأسباب أن الاتفاق يتجـاهل دور العديد من الأطراف المهمة في سوريا، بل إنه يتجاهل إيران ذاتها، وهي الطرف الذي يدير المشهد العسكري على الأرض، كما أنه لا يشمل مختلف التنظيمات الإرهابية في سوريا.
السبب الثاني أن إشادة المندوبة الأميركية في مجلس الأمن الدولي، سامنثا باور، بمشروع القرار الروسي الأخير حول سوريا، والذي حظي بموافقة جماعية من المجلس لا تعني بالضرورة تسليماً أميركياً بإنفراد روسيا بإدارة الأزمـة في سوريا، ولا يجب أن نتجاهل الفرضية القائلة بأن إدارة باراك أوباما تضع في الفترة الأخيرة ألغاماً على طريق الإدارة الأميركية المقبلة، وهذا ما يتضح من خلال الامتناع عن التصويت على مشروع قرار الاستيطان الإسرائيلي، أو دعم الموقف الروسي بشأن سوريا في مجلس الأمن.
يصعب، عملياً، أن تسلم إدارة باراك أوباماً أو الرئيس المقبل دونالد ترامب بإدارة روسيا للعالم، ولا يمكن أن توافق واشنطن على إطلاق يد روسيا في الصراعات والأزمات الحيوية بالنسبة للمصالح الاستراتيجية الأميركية، فهذا يعني، ببساطة، انهيارا لحقبة التفوق الأميركي وطياً لصفحة الهيمنة على النظام العالمي الجديد، ناهيك عن أن روسيا لا تمتلك مقومات إدارة هذا النظام بكل تفاصيله وتعقيداته، بل أعتقد أنها لا تطمح إلى ذلك من الأساس، وكل ما تبحث عنه في سوريا هو موطئ قدم على البحر المتوسط، وصفقة مقايضة للمصالح بين روسيا وأوكرانيا، ورد الاعتبار ومناكفة القوة الأميركية بحثاً عن تقاسم نفوذ أكثر مراعاة للمصالح الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط تحديداً.
هناك إشارات لا تخطئها عين المراقب، ومنها عدم رد الرئيس فلاديمير بوتين على طـرد الرئيس أوباما للدبلوماسيين الروس من الولايات المتحـدة، بل ومسارعته إلى تصحيح تصريح له قيـل إنه تعرض للتحريف من قبل وسائل الإعلام الأميركية، وكان قد تحدث فيه عن القوة العسكرية الروسيـة باعتبارها الأكثر تفـوقاً عالمياً، ولكنه عاد لتأكيد أن الولايـات المتحدة الأميركية هي الأكثر تفوقاً من النـاحية العسكرية، وهـذا ما يعني رغبة قوية من جانب الكرملين في تفادي إغضاب السيد المقبل للبيت الأبيض، وهناك حرص شديد على بناء مساحات توافق معه، بل وتجنب أي قرارات قد تتسبب في خسارة لغة الإشارات الإيجابية المتبادلة بين بوتين وترامب.
صحيح أن المسلك الروسي حيال الإدارة الأميركية المقبلة هو مسلك دبلوماسي فطن، ولكنه مسلك يعكس أيضاً توازنات القوى القائمة على الأرض، ولولا ذلك لما أخذت موسكو الإدارة الأميركية المقبلة بعين الاعتبار، ولبادرت بالرد على طرد دبلوماسييها بتصرف مماثل، وهذا ما اعتادت عليه خلال فترة الحرب الباردة، ولكنها تصرفت بمنطق مغاير للحقبة السوفييتية لتؤكد للجميع أن روسيا بوتـين تختلف عن روسيا السوفييتية، على الأقل لجهة إدارة التنافس الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، وأن الأمر لا يتعلق بصراع قطبي ولا بحرب باردة جديدة كما يقال، بل بصراع مصالح، ورغبة روسية قوية في إثبات الذات وانتزاع اعتراف أميركي بمصالحها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط.