جدل كبير ولغط هائل حول موقف مصر حيال مشروع القرار الخاص بالاستيطان، الذي عرض على مجلس الأمن مؤخرًا، حيث لاحقت الدبلوماسية المصرية اتهامات إعلامية أقلها يتصل بالتخلي عن الثوابت الإستراتيجية والتاريخية، والتنازل عن الدور والمكانة في قضية مركزية لمصر والعرب جميعًا.
لن أخوض في هوية وسائل الإعلام التي "نفخت" في نار الحملات المضادة للموقف المصري، ولا أهدافها، ولن أوجه اتهامات من أي نوع للمتحاملين على الموقف المصري في هذا الشأن، ولكن الأمر برمته يتطلب قدرًا هائلًا من الصراحة والمكاشفة والشفافية في النقاش، وبالتالي علينا أن ننطلق من معطيات محددة ودقيقة كي نصل إلى نتائج واضحة وموضع اتفاق لعل ذلك يحد من مساحات الخلاف المضرة لمصر وللقضية موضع النقاش في آن واحد.
وفي مقدمة هذه المعطيات، أن هناك إدارة أمريكية جديدة طلب منها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التدخل المباشر لإقناع الجانب المصري بالتخلي عن مشروع القرار، وهذا ما حدث بالفعل، حيث تشير أي جردة حساب عقلانية، وأكرر عقلانية للدبلوماسية المصرية في هذا الموقف إلى ضرورة تغليب المصلحة الإستراتيجية وتفادي المجازفة والانزلاق إلى مربع صدام أو توتر مع رئيس أمريكي جديد، حتى من قبل أن يتولى السلطة رسميًا ولو أي دولة أخرى مكان مصر في هذه الأزمة لفعلت ما فعلت القاهرة تمامًا في ضوء بيئة اتخاذ القرار وحساباتها الإستراتيجية التي يدركها خبراء الإستراتيجية جيدًا.
المعطى أو الأمر الثالث أن غالبية من ينتقدون الموقف المصري يتجاهلون تمامًا فكرة ما وراء الكواليس في مثل هذه التجمعات الدولية، فما يدور وراء الكواليس أكثر بكثير مما يدور في العلن، وبالتالي فلماذا يستبعد هؤلاء وجود تفاهم أو تنسيق بين مصر والدول الأربع التي قدمت مشروع القرار في اليوم التالي؟ ثم هل كان ما يهم المنتقدين أن يصدر القرار أم أن تتولى مصر تقديمه بغض النظر عن التأثير المحتمل في المصالح الإستراتيجية المصرية؟ وهل هناك علاقة لمثل هذه المواقف المناوئة بالرغبة في الدفع بالدبلوماسية المصرية للصدام مع الإدارة الأمريكية المقبلة، لاسيما في ظل التململ لدى البعض من وجود نوع من التوافق أو التفاهم بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب؟
أثق شخصيًا أن مصر تدير أمورها من واقع حسابات براجماتية تراعي مصالح مصر وشعبها من دون التفريط في حقوق أو مصالح دول عربية أخرى ما دام ذلك ممكنًا، كما أثق أن مصر لن تفرط في ثوابتها وموقفها الداعم للقضية الفلسطينية، وما تحقق من الناحية الفعلية هو تجسيد لما سبق، ولكن النائحين يتاجرون بالمواقف ويستغلون أي ثغرة حتى لو كانت مفتعلة لانتقاد الموقف المصري.
للموضوعية أقول إن العمل الدبلوماسي في عصرنا الراهن يختلف عما سبق من فترات وعصور، وإن المرحلة الراهنة بالغة التعقيد والدقة وتتطلب مناورات غير تقليدية لتحقيق المصالح من دون المجازفة بخسائر حتى لو كانت محتملة، أو على المدى البعيد.
وموقف مصر من القضية الفلسطينية ثابت ولا يحتمل المزايدة ولا التشهير، فهي الدولة التي تحملت عبء هذه القضية تاريخيًا، وهي من بادرت إلى صياغة مشروع القرار الخاص بالمستوطنات ولم يدفعها أحد إلى ذلك، وكان بالإمكان عدم التورط في هذا الموضوع لو لم تكن مقتنعة بموقفها من البداية، وقد حاولت استغلال نهاية فترة الرئيس أوباما لتمرير مشروع قرار قوي كهذا، ولكنها اصطدمت بموقف الإدارة الجديدة الذي بدا مبكرًا ناجدًا لحكومة نتنياهو وداعمًا بقوة لها حتى من قبل أن يتولى الرئيس الجديد مهامه رسميًا.
يسخر البعض من القول بأن تمسك مصر بتمرير مشروع القرار عن طريقها كان سيغلق باب الجهود المحتملة للرئيس ترامب لإجراء مفاوضات مباشرة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، ولكن هذه حقيقة، فالإدارة الجديدة بحاجة إلى موقف مصر القوى كوسيط في عملية السلام، ولم يكن ليحدث هذا في حال وجود أزمة مبكرة مثل ما قدرت الدبلوماسية المصرية، وهو تقدير براجماتي صائب.
إشكالية الدبلوماسية المصرية في هذا الموضوع نابعة من كونه موقفا ينتمي إلى المواقف الحقيقية الجادة وليس إلى المواقف الحنجورية الدعائية، فهو موقف نابع من تحمل المسئولية والحسابات الدقيقة للأرباح والخسائر، ولم يستهدف الدعاية والتسويق السياسي، وبالتالي لم يكن له نصيب فيهما، بل كان هدفًا للتهجم سواء عبر بعض وسائل الإعلام العربية أو عبر السوشيال ميديا.