احتدم النقاش والضجيج بل والصراخ الإعلامي في بعض الدول العربية الشقيقة حول خطر الإرهاب وتنظيماته، وذلك على خلفية وقوع اعتداءات إرهابية بالغة الخطر كونها تضرب في أعماق نسيج المجتمعات وتحاول الوقيعة بين مواطني الدولة الواحدة على خلفيات دينية أو مذهبية وطائفية.
لا أجد وسط هذه النقاشات حديثًا رشيدًا عاقلًا إلا قليلًا، بل حوار طرشان بامتياز، فالكثرة تتحدث ولا أحد يستمع أو ينصت، ناهيك عن يقرأ، البعض يساير الأجواء ويوظفها لمصالح وأفكار ذاتية، مثل التهجم على مؤسسة الأزهر الشريف وشيخه واتهامهما بالتقصير والضعف، لدرجة أن أحدهم قد تحدث باستخفاف لا يليق داعيًا شيخ الأزهر إلى الاستقالة، متهمًا إياه بالضعف والاعتلال الصحي، رغم أن المتحدث ذاته كان قد خرج للتو من المستشفى متعافيًا من أزمة قلبية ولم يجد من مشاهديه سوى الدعم والتعاطف وليس الدعوة إلى الجلوس في بيته للاستشفاء والتعافي!!
قرأت معظم ما كتب من مقالات حول الإرهاب في الآونة الأخيرة، وحالت قدر استطاعتي متابعة الحوارات النقاشية المتلفزة حول الظاهرة، ووجدت في القليل منها قدرًا من المعقولية، والأغلب يطفح غلًا وذاتية وطائفية دينية وفكرية وأيديولوجية مقيتة!!
بعض القلوب يكاد التراحم يغيب عنها، وطغت عليها القسوة والتشفي والمصالح والأهواء الشخصية، فالحقيقة أنه لا الأزهر سبب في تفجيرات الكنائس ولا شيخه سبب في انتشار الإرهاب، فجميع قادة تنظيمات الإرهاب وعناصرها لا علاقة لها جميعًا بالأزهر ومناهجه، وربما لم تقرأ كتابًا من الكتب المتهمة بالإرهاب، فلهؤلاء مراجعهم وكتبهم و"مقدساتهم"، وجلهم خريجي كليات الطب والهندسة أو متوسطي التعليم وجهلاء في بعض الأحيان. واللافت أن مهاجمي الأزهر ومنتقديه بعضهم محسوبون على تيارات أيديولوجية وفكرية معروفة بعدائها للدين ذاته، سواء كان دينًا مسيحيًا او إسلاميًا، ما يشكك في نوايا هؤلاء ويدفع باتجاه وجود أجندة أخرى تقف وراء هذا الهجوم المحسوب!
لا أحد يستطيع الإنكار أن مكافحة الإرهاب في كثير من الدول العربية تمضي بلا خطط مدروسة، بل هي في مجملها تصريحات وعبارات جوفاء ومناشدات ودعوات ومؤتمرات وندوات ومحاضرات لا تسمن ولا تغني من جوع!
الكل يطالب الكل بمكافحة الإرهاب ولا أحد يدري أين البداية والطريق! تخرج مؤتمرات كبيرة، يشارك بها رموز وخبراء ومتخصصون وأكاديميين، بتوصيات عديدة ولا تجد من يتابع تنفيذ هذه التوصيات، بل ربما لا تجد من يقرأها أساسًا وهذه حقيقة أعلمها جيدًا بحكم عملي كباحث!!
هناك عشرات الكتب والدراسات التي كتبت حول تاريخ الظاهرة الإرهابية وبداياتها ومساراتها وتحولاتها، ولكن لا أحد تقريبًا يدرس حاضر هذه الظاهرة وواقعها ودينامياتها الحالية!!
أدرك أن قراءة التاريخ "المرضي"والالمام به أمر ضروري لتشخيص العلة، ولكن كيف يغني الملف المرضي عن الأعراض الحالية للمريض ذاته!! وكيف نكتفي بقراءة الملف المرضي من دون فحص "اكلينيكي"دقيق للمريض، للتعرف على العلاقات السببية بين أجهزة الجسم! وكيف نركز جميعًا على اتهام الدين الإسلامي بالإرهاب ونتناقل اتهامات غربية جاهزة ومقولبة من دون وعي، ونتجاهل أدوار أخرى ربما يكون لها علاقة سببية بالظاهرة الإرهابية!!
كيف نكتفي بالتحليل الإعلامي والتراشق الكلامي السطحي في فهم واحدة من أخطر التحديات التي تواجه عالمنا العربي والإسلامي؟ وكيف ندير الأمر عبر شاشات التلفاز ويركز من يسمون أنفسهم بالخبراء على تدوير الكلمات والعبارات ذاتها في برامج "توك شو"مختلفة لمجرد جمع الأموال وحصد مزيد من الشهرة والانتشار الإعلامي؟
ألا تستحق منا دولنا وشبابنا وأجيالنا بالملايين أن نجلس في غرف مغلقة وندرس ونبحث بجدية الباحثين عن الأسباب العميقة الحالية للظاهرة الإرهابية ثم نخرج ببدائل وحلول وخطط واقعية قابلة للتطبيق من أجل الخروج من هذا المأزق؟
الظاهرة الإرهابية في منطقتنا متشعبة ومعقدة، ولا يجب أن تخضع أبدًا لحلول مؤقتة وعابرة وانفعالات وقتية سرعان ما تنتهي، فما نعانيه اليوم هو نتيجة حلول مؤقتة نفذت في سنوات ماضية، فالعقدة في الإرهاب ليست في رؤوسه فقط، على قدر خطورتها، بل في البيئات الحاضنة التي تمثل مخزونا بشريًا هائلا ولا ينفذ لهذه التنظيمات، وفي الثقافة المجتمعية التي يجب أن نعترف أنها لم تعد تعرف سوى اقصاء الآخر وغابت عنها قيم التعايش والتسامح، التي اعتقد أنها يجب أن "تقنن"ولا تترك للأهواء وتلاعب الأغبياء، بمعنى ضرورة سن تشريعات تتصدى للتمييز والكراهية، وقد قدمت دولة الامارات نموذجًا يحتذى به إقليميًا في هذا الإطار، بإصدار قانون مكافحة التمييز والكراهية والذي يقضي بتجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها ومكافحة كافة أشكال التمييز ونبذ خطاب الكراهية عبر مختلف وسائل وطرق التعبير، وهذا القانون الذي صدر منذ عامين تقريبا يجرم كل من يقوم بالإساءة إلى الأديان أو إحدى شعائرها أو مقدساتها أو تجريحها والتطاول عليها أو السخرية منها أو المساس بها. كما يجرم القانون التعدي على أي من الكتب السماوية بالتحريف أو الإتلاف أو التدنيس والإساءة بأي شكل من الأشكال إلى جانب تجريم التخريب والإتلاف أو الإساءة أو التدنيس لدور العبادة، ألا تحتاج دولنا جميعها مثل هذه التشريعات؟
هذا هو دور الدولة في تكريس ثقافة التعايش، وليس دور مؤسسات دينية كالأزهر أو الكنيسة وغيرهما، حيث يتوجب على الدول البحث في مواطن القصور، أو استشراف مستقبل الأخطار والتهديدات المجتمعية والتصدي لها عبر آليات استباقية، وليس تركها كي تستفحل وتنتشر ووقتذاك ستجد من يقاوم إصدار القوانين وتشديد العقوبات!!
ألا يعد تطوير التعليم وتحديثه والقضاء على ثقافة الحفظ والتلقين بما تكرسه من تبعية واعتياد على السمع والطاعة العمياء، ألا يعد ذلك تصديًا مبكرًا لفكر إرهابي محتمل؟ ألا تعد مراجعة الأفكار التي تقدم في السينما والمسرح وتخليصها من أي ميل للإقصاء والتهميش مكافحة للإرهاب؟ ألا تعد التوعية الثقافية وتخليص المجتمعات من الجهل والأمية والصور النمطية السلبية تجاه الآخر، مكافحة للإرهاب؟ ألا تعد مكافحة الفساد والمحسوبية والفقر والبطالة، تصديًا ضروريًا للإرهاب؟
لست ضد مراجعة الكتب والمناهج الأزهرية، بل أؤيد ذلك وبقوة بحثًا عن مواكبة ركب الحداثة والتطور العلمي، ولكني ضد فكرة إقامة المحارق للكتب القديمة التي توصف بالصفراء في مجملها، فلسنا بحاجة إلى تكرار ممارسات القرون الوسطى، بل بحاجة إلى نهضة مستنيرة ووعي حقيقي يساعدنا في استئناف حضارتنا كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في إحدى محاضراته بالقمة الحكومية الأخيرة.
كلمة أخيرة: لو نسفنا مباني الأزهر جميعها وأقلنا شيخه الوقور، لن ينتهي الإرهاب طالما أننا لم نعمل على معالجة البيئة المجتمعية الحاضنة لهذه الظاهرة البشعة، وطالما أننا نتعامل مع ظاهرة بهذه الخطورة بشكل قشري تلفزيوني غير جاد، وطالما أننا نكتفي بحوار الطرشان!!