بدعوة كريمة من فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف رئيس مجلس حكماء المسلمين، سعدت بالمشاركة في المؤتمر العالمي للسلام، الذي عقده الأزهر الشريف، تحت رعاية فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، وبحضور البابا فرانسيس بابا الفاتيكان، وقداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، ونخبة من رجال الدين الإسلامي والمسيحي، والساسة والأكاديميين والمثقفين، وهو مؤتمر من المؤتمرات الاستثنائية في توقيتها وموضوعها بل والجهة المنظمة لها.
لم يكن الأزهر الشريف يدري وهو يخطط لتنظيم هذا المؤتمر العالمي منذ نحو عام مضى أنه سيٌعقد في توقيت يشهد هجومًا وانتقادات غير مبررة وخالية من المنطقية والموضوعية ضد هذا الصرح الإسلامي العريق.
توقيت انعقاد المؤتمر كان مخططًا له منذ زيارة شيخ الأزهر إلى الفاتيكان في مايو من العام الماضي، حيث اتفق فضيلته وبابا الفاتيكان على عقد مؤتمر عالمي للسلام بحضور البابا في القاهرة، ولكن جاءت الاعتداءات الإرهابية الآثمة على كنيستي طنطا والإسكندرية لتضاعف أهمية المؤتمر وتضفي عليه مزيدًا من الأهمية والضرورة القصوى.
استفحل الإرهاب، وازدادت الحاجة إلى التعايش، ولكن هذه الأخطار والتحديات غابت ولم يتبق لأصحاب الهوى سوى تصفية الحسابات مع الأزهر الشريف في هذا التوقيت تحديدًا، ولم يكن هؤلاء يدرون أن الأزهر وشيخه الوقور مشغولون بترتيب هذا المؤتمر العالمي، واعتقدوا أن التوقيت موات لطعن الأزهر طعنة قاتلة، وخاب ظنهم، فالأزهر باق بشيوخه، ورمزيته الدينية والتاريخية، والتفاف المصريين بل والمسلمين جميعًا حوله.
لقد فطن الأزهر إلى ما يحيق بمصر من أخطار منذ عام 2011، وتصدى للكثير من التحديات وحاول وضع أسس للمواطنة الحقيقية عبر وثيقة الأزهر في عام 2013، وهي وثيقة تاريخية ولم ينتبه الكثير من الباحثين لأهميتها، لأنها المرة الأولى التي يشارك فيها الأزهر كمؤسسة، وليس كأفراد ورموز وشيوخ، في التأسيس لفكرة المواطنة، وأن يضع يده في يد المثقفين لبدء حوار مجتمعي فعال، بعد أن اتهم، ولا زال، بالعداء للثقافة والترويج للإرهاب والتشدد والتطرف!!
لا أدرى كيف يٌتهم الأزهر وشيخه بدعم الإرهاب وقد خرجت من رحم هذا الصرح العريق وثيقة تقول في ديباجتها "باسم الأزهر الشريف، المؤسسة العلمية الوطنية العريقة، وبمشاركة طائفة من هيئة كبار العلماء وممثلي الكنائس المصرية"، الأزهر يقدم نفسه في ديباجة الوثيقة بأنه "مؤسسة علمية وطنية عريقة"، ولم يدع أنه ممثل حصري للإسلام، وربما حرص على تفادي ذلك كونه من الأمور المستقرة في الوعي الجمعي، لذا كانت هناك حاجة لتأكيد ما هو أهم في تلك اللحظة الحساسة تاريخيًا، وهي فكرة المواطنة جنبًا إلى جنب مع فكرة "العلم".
هذه الوثيقة أدانت العنف بوضوح لا لبس فيه، وحرمت القتل وأكدت على المواطنة، وخاطبت المواطنين المصريين بدون تفرقة بين مسلم ومسيحي، ومع ذلك نجد من يخرج على الناس عبر الإعلام ليعلن أن الأزهر يروج للتطرف والتشدد!! وقد فصلت هذه الوثيقة بشكل واضح أيضًا بين الدين والدولة، ولم تتحدث باسم الدين بل تحدثت عن الدولة، وتحدثت عن التقدم والعلم والعدالة ودخول عصر المعرفة، والتشديد على أهمية الحوار، فهل بعد ذلك نثق أن هناك من قرأ هذه الوثيقة التاريخية من بين من هاجموا الأزهر؟!
المهم أن موضوع المؤتمر هو السلام، وهو ما نبحث عنه جميعًا في منطقة تنام وتصحو على أخبار القتل والذبح وسفك الدماء والقتل والتفجيرات وغير ذلك من الجرائم التي باتت "المنتج"الأكثر شيوعًا في "صادرات"المنطقة العربية إلى العالم!!
السلام بحاجة إلى ثقافة، فثقافة السلام أهم وأقوى وأكثر استدامة من السلام بحد ذاته، فالسلام يمكن أن يتحقق بقرارات واتفاقات وتفاهمات بين الدول، أو بقوانين ووثائق وتشريعات داخل الدول وبين أبناء الوطن الواحد في حال انزلقوا إلى فخ الصراع والاحتراب لا قدر الله، ولكن الأهم والأكثر استدامة هو غرس ثقافة السلام، وهذا وهو الاختبار الحقيقي لجدية النوايا والرغبة الحقيقية في السلام.
ثقافة السلام تعني التعايش وتحتاج إلى روزنامة قيم مثل التسامح والاعتدال وقبول الآخر والوسطية والانفتاح، وهذه في مجملها أمور بحاجة إلى دور قوي للدولة، لا للمؤسسات الدينية فقط، ومن الظلم أن نلقي بمسؤوليتها على مؤسسة دينية، فتكريس منظومة القيم مسؤولية الدول، وتبدأ من المناهج الدراسية واستراتيجيات الاعلام والسياسة والعمل المجتمعي والأهلي، ومن هنا تأتي أهمية نقاشات هذا المؤتمر الحيوي للبحث في استحقاقات السلام ومتطلباته.