في خضم الجدل البحثي والسياسي في نهاية القرن العشرين حول مستقبل القوة وحدودها، وعلى خلفية بحوث ودراسات غربية عديدة حول الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وظهور نظريات مثل "نهاية التاريخ" و "صراع الحضارات" وغيرها، برز مفهوم مبتكر للقوة من خلال المفكر السياسي الأمريكي المعروف جوزيف ناي، أشهر منظري مفهوم "القوة الناعمة"، حيث أشار ناي إلى مايعرف بقوة النموذج، بديلاً للقوة الخشنة أو الصلبة، والنموذج المقصود هنا هو النموذج الحضاري، القائم على روزنامة القيم الثقافية والانسانية والأخلاقية والسياسية التي تمتلكها الدول.
مفهوم القوة الناعمة، أورده جوزيف ناي في البداية ضمن كتابه المعروف "تناقض القوة الأمريكية: لماذا لا تستطيع القوة العظمى الوحيدة في العالم أن تمضي بمفردها؟"، ثم طور المفهوم الحديث في كتابه "القوة الناعمة" الصادر عام 2004، وذلك على خلفية الجدل حول جدوى غزو العراق، وطرح من خلاله ناي كيفية تحقيق أهداف الاستراتيجية الأمريكية من خلال القوة الناعمة، واكتسبت هذه النظرية دعماً إضافياً من تأييد عسكريين أمريكيين مشهورين لها مثل كولن باول.
الحديث عن القوة الناعمة لا يرتبط فقط بالقوة والصراعات، بل يرتبط بالأساس بالمقومات الرئيسية بالجاذبية التي تمتلكها الدول، فهي القوة الأكثر فاعلية وتأثيراً على المدى البعيد. وكما يقول جوزيف ناي، فإن لكل قوة موارد، وموارد القوة الناعمة تتمثل في ثلاثة موارد أولها الثقافة وما يرتبط بها من قيم ومبادىء بل وآليات عمل في قطاعات الثقافة كافة، وثانيها القيم الديمقراطية، بمعناها الشامل، وثالثها السياسة الخارجية والمبادىء والأسس الأخلاقية التي تنطلق منها وترتكز عليها.
لا أقصد من هذا التنظير شرح مفهوم القوة الناعمة، ولكني أراه مقدمة لازمة للحديث عن مجلس القوة الناعمة، الذي تأسس في دولة الامارات مؤخراً، فقد اعتدنا من الإمارات في السنوات الأخيرة نهج المبادرة والمبادأة على الصعيد الابداعي والابتكاري، ولم لا وهي من استحدثت وزارة للتسامح وأخرى للسعادة، ولم لا وهي من بادرت إلى سن قانون مكافحة التمييز والكراهية، لتؤسس النموذج في مكافحة الارهاب على أرض الواقع وليس عبر الفضائيات والخطب والمقالات فقط.
مجلس القوة الناعمة، الذي أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عن تأسيسه مؤخراً، هو نقلة نوعية على صعيد استثمار مقومات الجاذبية الاماراتية المتنوعة وحشدها في إطار منظومة عمل مؤسسية قادرة على تسويقها والترويج لها في إطار "النموذج الاماراتي" اقليمياً ودولياً.
في سنوات سابقة، كان الحلم الأمريكي يسود العالم كافة، ولكن في السنوات الأخيرة، برزت أحلام أخرى تنافس هذا الحلم، وصعدت دول عدة لتنافس وتزاحم الحلم الأمريكي سواء على مستوى طموح شباب العالم للعيش في بلاد أخرى أو الحصول على فرص عمل أفضل، وتأتي الامارات في مقدمة الدول التي تحتل صدارة قائمة "الدولة الحلم" وقد تابعت منذ أسابيع مقولة أطلقها رائد الأعمال الهندي بوكساني، التي قال فيها إن الحلم الإماراتي أقوى وأكثر تأثيراً من الحلم الأمريكي، وأضاف أن "الحلم الإماراتي يتمتع بمكانة أقوى وأكثر تأثيراً من نظيره الأميركي، فما تمّ تحقيقه في دولة الإمارات من إنجازات باهرة خلال فترة قصيرة لا تتعدى ثلاثين عاماً أمر لم تقم به أي دولة أخرى في العالم".
ركائز النموذج الاماراتي قائمة على الابداع والابتكار وثقافة التميز والتنافسية وتوفر البيئة الملائمة لذلك كله، ولا تكتفي بالشعارات والكلمات البراقة، بل هناك بيئة مؤسسة للعمل والانطلاق والتنافس، والسر الأهم والأكثر تأثير هو القيادة التي تقف وراء ذلك كله وتشجع وتفتح الطريق، وتمهد الأجواء لكل ما يحقق مصلحة الإمارات وشعبها، بل والمنطقة والعالم أجمع.
تمتلك الامارات روزنامة قيم انسانية وحضارية بالغة الرقي والتحضر، فهي عاصمة العالم الانسانية، كونها الدول الأكثر تقديماً للمساعدات الانسانية في العالم، وهذا بحد ذاته كفيل بتأكيد عمق التزامها الانساني والحضاري.
هذا كله بحاجة إلى منظومة عمل مؤسسية تجسدت في مجلس الامارات للقوة الناعمة، الذي نعتقد أنه لن يفيد الامارات فقط، بل سيسهم في صناعة الأمل ونشر التفاؤل لكل شباب المنطقة والعالم، وبالتالي ايجاد معادل موضوعي وبديل حقيقي لثقافة العنف والتفجير والتفخيخ!!
إنها الإمارات، صانعة الأمل في غد أفضل للعالم.