اعتاد الكثير من الباحثين عن ترديد مقولات معلبة بشأن التفرقة بين تنظيم الإخوان المسلمين في مصر ونظيره في تونس، وأن معظم قيادات حركة النهضة التونسية قد عاشوا في الغرب، والعاصمة البريطانية تحديداً، وتشبعوا قيم الديمقراطية والتعددية ولديهم اعتراضات وتحفظات كثيرة على فكرة الانفراد بالسلطة واحتكار السياسة وتوظيف الدين فيها، ولكن شاء القدر ان يثبت لهؤلاء جميعاً، وبأسرع مما نتخيل، أن هذه الفوارق مصطنعة وأن التراجع التكتيكي للحركة التونسية لم يكن سوى نوع من التقية السياسية بعد فشل نظرائهم في التجربة المصرية، ولم يكن يعبر عن قناعات بالشراكة السياسية وضرورة تنوع الطيف السياسي والحزبي في التجربة التونسية.
ولما كان الباحثون والمتخصصون يتفقون على أن مرحلة مابعد الرئيس التونسي الراحل قايد السبسي، الذي توفاه الله مؤخراً، تمثل اختباراً صعباً للتعددية السياسية في تونس، أو ما وصفته صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية بـاختبار لـ"الديمقراطية الهشة"، فإن الإجابة على سؤال ماذا بعد؟ قد جاءت سريعة وكاشفة للنوايا، حيث قررت حركة النهضة، وبالإجماع (!)، ترشيح عبد الفتاح مورو لخوض انتخابات الرئاسة المقبلة، في خطوة ستدفع الكثير من المحللين لمراجعة توقعاتهم بشأن مستقبل الاستقرار السياسي في هذا البلد العربي الشقيق، حيث يدرك الجميع أن دخول "الإخوان" على خط التنافس على منصب الرئاسة يربك التوازن القائم بين القوى والأحزاب والتيارات السياسية.
ولاشك أن وجود السبسي كان ضمانة مهمة تحفظ التوازن السياسي، ليس فقط بحكم توجهاته السياسية الضامنة لإعلاء القيم والمبادئ الوطنية، ولكن لحكمته وحنكته وخبرته الهائلة التي ساعدته كثيراً في الإمساك بخيوط اللعبة السياسية والحفاظ على الاستقرار، من خلال حزب "نداء تونس" الذي تشكل في عام 2012 ليقوم بدور كبير في بناء التوازن السياسي بين التيارات السياسية المتنافسة، ولكن تطلعات "إخوان تونس" للوصول إلى الرئاسة في وفاته يثير شكوك كبيرة حول المستقبل، لاسيما في ظل ترشح عبد الفتاح مورو للرئاسة وترشيح راشد الغنوشي على رأس قوائم الحركة للانتخابات التشريعية المقبلة.
السؤال هنا: لماذا تبدلت مواقف "إخوان تونس" واتجهوا إلى خوض الانتخابات الرئاسية بشكل مفاجئ؟ وهل ينوون تكرار تجربة "إخوان مصر" الذين جاءت مشاركتهم في الانتخابات الرئاسية وفق سيناريو مشابه؟ (لنلاحظ أن إعلان ترشيح مورو جاء مباشرة عقب تقديم رئيس الحكومة السابق والقيادي المنسحب من حركة النهضة، حمادي الجبالي، ملف ترشحه لانتخابات الرئاسة كما حدث تماماً عقب إعلان "إخوان مصر" ترشيح خيرت الشاطر ثم محمد مرسي عقب إعلان القيادي الإخواني المنشق عبد المنعم أبو الفتوح ترشحه للرئاسة وقتذاك) وهل للخطوة الاخوانية التونسية علاقة برهانات وضغوطات داعمي تنظيم الاخوان المسلمين الإقليميين مثل تركيا وقطر بعد أن باءت الرهانات على بقية حركات وتنظيمات الاخوان في مصر وليبيا واليمن وأخيراً السودان بالفشل؟ وهل ستمضي الحركة في إجراءات ترشيح مورو أم سيكون إعلان الترشح مناورة سياسية تستهدف الضغط للوصول إلى "صفقة" مع أحد مرشحي الرئاسة الحاليين ثم إعلان انسحاب مورو بعد توافر تفاهمات وضمانات سياسية معينة تضمن نفوذ ما للحركة في قصر قرطاج؟
الغنوشي كان يعيب على "إخوان مصر" اخطائهم في قراءة الوضع الداخلي وموازين القوى السياسية وعدم مراعاة أدوار الآخرين، ولكن الأيام اثبتت أن الفكر واحد وأن الرغبة في الحكم أقوى من أي تأثر بالأفكار الديمقراطية التي يرى البعض أنها تميز "إخوان تونس".
قرار إخوان تونس بخوض الانتخابات الرئاسية يحطم أسطورة تفرد الحركة بالوعي السياسي عن بقية تنظيمات الإخوان المسلمين في الدول العربية، وكل مايقال عن تأثير الحياة في الغرب على أفكار الإخوان وتوجهاتهم السياسية المتشددة وقبولهم لقواعد اللعبة الديمقراطية.
اللافت ان قلوب "إخوان تونس" لم تكن زاهدة في منصب الرئاسة منذ عام 2011، بل كانت ترصده وتتمناه وتخطط له منذ سنوات، ولكن انهيار شعبية الحركة واضطرارها إلى قبول صيغ الأمر الواقع في التشكيلات الحكومية قد صرف نظرها مؤقتاً عن كرسي الرئاسة التونسية، ولكنها عادت بتكتيك جديد يتمثل في الدفع بمورو بدلاً من الغنوشي الذي كان يطمح للرئاسة؛ لذا فإن ترشيح مورو هو بمنزلة تغيير جذري في تكتيكات "إخوان تونس" الذين دعموا مرشح من خارج الحركة في انتخابات عام 2014، وساهموا في الدفع بمنصف المرزوقي رئيساً في انتخابات غير مباشرة عبر المجلس التأسيسي عام 2011، والأيام المقبلة قد تكون حبلى بالمفاجآت، ولكن الشواهد الراهنة تؤكد أن التجربة السياسية التونسية تواجه فترة عصيبة نأمل أن تشهد انتصاراً لإرادة الشعب التونسي الذي أظهر وعياً وطنياً عميقاً بالتفافه حول قيادة الرئيس الراحل قايد السبسي خلال السنوات القلائل الماضية.
المهم أن هذه الخطوة الاخوانية قد تكون "القشة التي قصمت ظهر البعير" لكونها كاشفة للنوايا والرغبة في احتكار السلطة، فالانتخابات الرئاسية التي ستجرى في منتصف سبتمبر المقبل، تسبق الانتخابات التشريعية التي ستجرى في أكتوبر المقبل، أي الشهر التالي لها، ومن ثم قد تفقد الحركة الرهانين معاً، فلا تدرك هذا ولا ذاك، لأن الإخوان كعادتهم دائماً لا يستفيدون من دروس الماضي ويسيئون التقدير وفهم معطيات البيئة السياسية من حولهم، فتجدهم يتقدمون ويندفعون حين يستوجب الأمر الحذر والتريث، لينكشف أمرهم وتفتضح نواياهم، ومن ثم جاء اندفاعهم للترشح للانتخابات الرئاسية في ذروة لحظات ضعف حركة النهضة وتراجع شعبيتها تونسياً وعربياً(!) بدليل أن أحد قيادي حزب حركة النهضة قد سارع عقب إعلان ترشيح مورو، للقول بأن "اختيار مرشح داخل النهضة خيار خاطئ ولا يستجيب لمقتضيات المرحلة"، واصفاً التوافق الحزبي على الترشح بأنه "وحدة مغشوشة ومزيفة، ولعل هذا من تدابير القدر التي تريد للشعوب العربية الأمن والاستقرار وتجنبهم شرور الفتن والمؤامرات.