لاشك أن أي تحليل منطقي لأهداف التدخل العسكري التركي في ليبيا يشير إلى أمور واضحة تتعلق برؤية الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يسعى للتمدد وإحياء إرث الأجداد، وليس أدل على ذلك من تصريحات وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، التي قال فيها: "ليبيا هي جارتنا عبر البحر ومن غير المرجح أن نبقى على الحياد، بينما تتواجد هناك دول ليست جارة مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية"، واعتبر وزير الدفاع التركي أن السؤال حول سبب وجود الجيش التركي هناك لا معنى له.
وهذه التصريحات التي تخلو تماماً من اللياقة السياسية وتعكس عدم الالمام بأبسط قواعد العلاقات الدولية المعاصرة، تركز على الدفاع عن أهداف السلطان أردوغان بغض النظر عن سذاجة المبررات التي يسوقها وزير دفاع دولة اقليمية بحجم تركيا، فهو يتجاهل عن جهل عن أو عن عمد لا فرق ـ أن ليبيا دولة عربية وتربطها بالقوى العربية الفاعلة مثل جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية ودولة الامارات روابط مصيرية ناهيك عن روابط مؤسسية تنظيمية مرتبطة بعضوية الجامعة العربية والاتفاقية الجماعية بين أعضائها، فضلاً عن علاقة ذات خصوصية جيواستراتيجية وتاريخية عميقة تربط مصر وليبيا، ليس فقط للحدود البرية المشتركة التي تفوق نحو ألف كيلو متر مربع، بل أيضاً من ارتباط عضوي للأمن القومي المصري بما يحدث في الجارة العربية ليبيا.
يتحدث الوزير التركي عن "جيرة بحرية" بين تركيا وليبيا توفر لبلاده الحق في التدخل عسكرياً في هذا البلد العربي رغم أن البحار والمحيطات تضم عشرات الدول المشاطئة، وأن هذه الفكرة العبثية تتعارض تماماً مع مبادىء القانون الدولي وحق السيادة الذي بات أمراً مستقراً للدول الأعضاء في الأمم المتحدة منذ تأسيسها.
الحقيقة أن وزير الدفاع التركي يعيد بهذا التصريح تعريف مفاهيم باتت راسخة في القانون الدولي، ويهدر فكرة "الجوار" القائم على الجغرافيا وليس على استنتاجات خيالية، والحقيقة أيضاً أن تركيا كشفت عن نواياها الحقيقية بعيداً عن تصدير الاوهام عندما قررت تفعيل الاتفاقية غير الشرعية التي وقعتها مع حكومة السراج والبدء في التنقيب عن الغاز الطبيعي "في اقرب وقت ممكن" بحسب ما نقل عن الرئيس أردوغان، كاشفاً بذلك عن الأطماع التركية في ليبيا، والتي تراوح بين غاز شرق المتوسط وموارد الطاقة الليبي ذاتها فضلاً عن هدف حيوي كمناكفة الخصوم الاستراتيجيين لتركيا مثل مصر واليونان، وتعظيم دور تركيا في استغلال ورقة الهجرة غير الشرعية التي تلعب فيها الشواطىء الليبية دوراً كبيراً مؤثراً على الامن والاستقرار الأوروبي، كي تعزز تركيا ابتزازها للأوروبيين في هذا الملف.
ولاشك أن احد أسرار استنفار تركيا في الملف الليبي أنها وضعت كل رهاناتها بشأن حقول الغاز الطبيعي في البحر المتوسط في سلة حكومة فايز السراج، لذا نجد أردوغان يغامر بالتورط في ليبيا ويفاقم عزلة بلاده اقليمياً ودولياً جراء سياساته المتهورة حتى أنه تحدث قبيل مؤتمر برلين عن أن تركيا ستبقى في ليبيا حتى الإقرار بحقوقها في المتوسط، وأن تركيا مصممة على تسخير كل الإمكانات السياسية والدبلوماسية والقوة العسكرية في ملفات سوريا والمتوسط وليبيا.
لاشك أن سياسات أردوغان تسبب إرباكاً اقليمياً ودولياً وتدخلاته في دول كسوريا وليبيا باتت كاشفة لسوء نواياه ورغبته التي لا يخفيها في إحياء الأحقاد والتوترات التاريخية بين الشعوب، انتصاراً لأيديولوجية متطرفة هزمتها إرادة شعوب المنطقة، متخلياً بذلك عن أساسيات السياسة الخارجية التركية التي فتحت الباب أمام دور تركي جديد في المحيط العربي والاسلامي، عبر سياسة "تصفير المشكلات" التي دشنها داود اوغلو، الذي انشق عن حزب العدالة والتنمية وأسس حزباً منافساً بعد انحراف أردوغان عن المبادىء التي قام عليها الحزب فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، والتي حاد عنها أردوغان نهائياً منذ عام 2011 إثر انحيازه السافر لأجندة تنظيم "الإخوان المسلمين" الارهابي ودعمه للفوضى والاضطرابات التي تسببت فيها هذه الجماعة في دول عربية عدة.