لا يختلف اثنان على أن الأمن القومي المصري يواجه تحديات استراتيجية غير مسبوقة، فللمرة الأولى تاريخياً تواجه مصر تحديات متزامنة عدة معقدة، داخلياً وخارجياً، وعلى اتساع حدودها الجغرافية من الاتجاهات كافة بل وعمقها الاستراتيجي في هذه الاتجاهات، فلم يعد مصدر التهديد واحداً كما كان معتاداً في السابق، بل أصبحت مصر في مواجهة مصادر تهديد متعددة في مقدمتها التدخل التركي العسكري المباشر في ليبيا بما ينطوي عليه من أهداف خبيثة لتقويض أمن مصر واستقرارها ومحاولة الضغط عليها استراتيجياً انتقاماً لفشل تنظيم الإخوان المسلمين الارهابي في حكم البلد العربي الأكبر سكاناً، وهناك التهديد الذي يواجه شريان حياة الشعب المصري، نهر النيل، من خلال إصرار اثيوبيا على المماطلة والتسويف ورفض الحلول التوافقية التي تحقق مصالح شعوب وادي النيل وتضمن طي صفحة أزمة "سد النهضة" بما يحقق منافع للجميع. وهناك أيضاً التهديد الآني القادم من الشرق، بمحاولة تنظيمات الارهاب والدواعش التمركز في سيناء، مدفوعين في ذلك بدعم من دول وأنظمة لا تريد لمصر استقراراً ولا أمناً.
أضف إلى ماسبق تحديات الداخل متمثلة في معركة التنمية التي تخوضها مصر لإستكمال بنيتها التحتية المتهالكة وتعزيز اقتصادها بما يكفل توفير أسس الحياة الكريمة للشعب المصري، وهي معركة تتزامن مع مواجهة تحدي انتشار فيروس "كورونا"، وهي معركة أنهكت اقتصادات دول العالم أجمع، ولها بالطبع تأثيرها السلبي على الاقتصاد ومسيرة التنمية في مصر.
تريد تركيا تغيير الوضع الاستراتيجي والعسكري والسياسي في ليبيا لمصلحتها ثم الانطلاق إلى السيطرة على ثروات وموارد الشعب الليبي، والأخطر من ذلك أنها تسعى لتوريط الجيش المصري في صراع استنزاف مع الميلشيات الارهابية على ارض ليبيا، لإنهاك مصر ووأد خططها الاستراتيجية لاستعادة مكانتها الاقليمية والدولية، ولكن مصر ردت بحزم وقوة على لسان رئيسها بأنها "لن تقف مكتوفة الأيدي في مواجهة أي تحركات تشكل تهديدا مباشرا قويا للأمن القومي، ليس المصري والليبي فقط، وإنما العربي والإقليمي والدولي"، وتأكيده قدرة الجيش المصري "على تغيير المشهد العسكري في ليبيا بشكل سريع وحاسم."
والحقيقة أن القيادة المصرية تمسك بخيوط هذه الأزمات وتديرها بتوازن دبلوماسي وهدوء ووعي سياسي واضح، فلا اندفاع ولا تسرع في مثل هذه الأزمات، فالقرارات تؤخذ بدقة وحكمة متناهية، لأن كل طرف من أطراف هذه الأزمات يريد لمصر أن تتورط وتتسرع وتندفع في هذا الاتجاه أو ذاك، بينما مصر بكل موروثها التاريخي والحضاري وخبراتها العسكرية على مر التاريخ تدرك أن قرارها بيدها وأن توقيت خوض الحروب يجب أن يتحدد وفقاً لمعطيات معينة لا استجابة لمخططات الاستدراج والاستنزاف.
والملاحظ أن مصر تعمل جيداً على بناء قضيتها وتدعيم موقفها القانوني في أزمتي ليبيا و"سد النهضة"، فمصر قوة اقليمية كبرى وتتصرف بمسؤولية وتتحرك في إطار مواثيق وشرعية دولية تضمن لها حقوقها، فالحقوق لا تنزع بالحروب فقط، فالحرب حتى وإن كانت تصنف منهجياً في إطار كونها حرب ضرورة، هي مقدمة لتحقيق السلام، فمصر ليست دولة معتدية وتدرك أن السلم والتنمية لجميع الشعوب غايتها الأساسية وأن هذا الهدف إن لم يتحقق بالحوار فقد يتحقق بالحرب باعتبارها وسيلة لردع المعتدين ووقف المخربين والمستهترين بالقانون والشرعية الدولية، وتدرك ايضاً أن إشعال الحروب أسهل بكثير من صنع السلام، وليس أخبر بالحرب والسلم من دولة كمصر التي خاضت خمسة حروب كبرى في غضون أقل من نصف قرن من الزمان.
لذا فإن قرار مصر بوضع خط أحمر للتهور التركي في ليبيا، كان بمنزلة نجاح استراتيجي باهر، لأنه اتخذ بدعم من قوة عسكرية واضحة على الأرض وإرادة قوية على اتخاذ قرار الحرب وترتيب لأوراق البيت الداخلي المصري ومساندة من المؤسسات والشعب المصري، ومن ثم كانترسيم الخط الأحمر ذا مصداقية ردع في مواجهة اندفاع ميلشيات تركيا وأعوان السلطان، الذين أدركوا أن سيناريو الاستدراج والاستنزاف للجيش المصري لن يتحقق كما يتوهمون، بل سيواجهون ضربة قاصمة خاطفة تدمر الأطماع الاستعمارية في صروات الشعب الليبي ومقدراته وتنهي المغامرة التركية في ليبيا وربما في غيرها من الدول العربية. ونعتقد أن هناك خط أحمر لمصر فيما يتعلق بأزمة سد النهضة أيضاً ولكنه خط غير معلن لأسباب استراتيجية، ولأن طبيعة هذه الأزمة مختلفة وتتطلب قدراً عالياً من التريث والصبر الاستراتيجي، باعتبار أن الحل العسكري فيها له تكاليف وتوابع وتداعيات تفوق الحوار بمراحل كثيرة، فالتخطيط السليم يقول بضرورة استنزاف كل الحلول قبل توقيع قرار عسكري في هذه الأزمة بالغة الحساسية، فالصراعات على المياه ليست نصر وهزيمة بل صراعات بقاء تتطلب حكمة وصبراً من الأطراف جميعها، وهي ما نرجو أن تفطن إليه اثيوبيا التي لا تزال تراهن على الجغرافيا دون حقائق التاريخ ودروسه.
ومن دون تهوين ولا تهويل، فإن نهج مصر وقيادتها في إدارة هذه الأزمات والخروج منها جميعاً بأقل قدر من الخسائر سيحدد شكل منطقتنا العربية في المستقبل المنظور، فالتجارب التاريخية علمتنا أن الصراعات العسكرية تبدأ بقرار ولكنها لا تنتهي سوى بأنهار من الدماء وانباء الدمار والخراب وقصص المعاناة الانسانية في ساحات القتال، وهذا هو الدرس الذي يجب على الأطراف الأخرى في هذه الأزمات استيعابه جيداً، ولاسيما السلطان التركي المولع بإشعال الحروب وأخبار القتال، والذي يقود ميلشياته وجيشه إلى نقاط أزمات وصراعات تتمحور جميعها حول الهيمنة والنفوذ على مناطق الثروات في دول عربية عدة هي سوريا والعراق وليبيا، ناهيك عن احتلاله الناعم لقطر وسيطرته على خزائنها ومواردها!