لا يختلف اثنان من المراقبين على أن انعقاد اجتماعات الدورة الخامسة عشرة لقمة مجموعة العشرين برئاسة المملكة العربية السعودية، مثل حدث استثنائي بكل المقاييس للمملكة والمنطقة جميعًا، فللمرة الأولى يترأس بلد عربي المجموعة التي تضم أكبر اقتصادات العالم، وأكثرها تأثيرًا في جميع نواحي الحياة، كما أن هذه القمة سلطت الضوء بقوة على مكانة المملكة وثقلها الاستراتيجي الدولي، الذي يجعلها قوة مؤثرة في صناعة سياسات العالم الاقتصادية.
ورغم أن هذه القمة عقدت افتراضيًا بسبب ظروف تفشي وباء "كورونا" المستجد (كوفيد ـ19) شأنها في ذلك شأن كافة الاجتماعات العالمية التي كان من المقرر أن تعقد في الأشهر الأخيرة، ومنها اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي عقدت افتراضيًا أيضًا في سبتمبر الماضي، فإن هذه الظروف الاستثنائية التي عقدت فيها القمة تضفي عليها أهمية استثنائية بالغة لأنها تعكس صعوبة التحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، ومن ثم فإن الرئاسة السعودية للقمة تعني أن صوت دول المنطقة وشعوبها كان حاضرًا في أهم منتدى اقتصادي دولي، يمثل نحو 85% من إجمالي حجم الاقتصاد العالمي.
ونعلم جميعًا أن اختيار المملكة لاستضافة هذا الحدث العالمي، قبل أن يتقرر انعقاده افتراضيًا للظروف الصحية العالمية الراهنة، هو بمنزلة تصويت عالمي بالثقة في المملكة ومكانتها وثقلها الاستراتيجي الدولي، اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، فالسعودية في ظل توجهاتها التنموية المتطورة والتحولات النوعية التي تشهدها اقتصاديًا واجتماعيًا واستثماريًا وبنيويًا وخططها التحديثية بالغة الأهمية، ولاسيما ما يرتبط بأهداف رؤية 2030 بالغة الطموح، باتت بالفعل نمرًا اقتصاديًا واعدًا ونموذجًا ملهمًا لكافة دول المنطقة والعالم على صعيد التحول الاقتصادي والاستثماري، ما يعزز التأثير العالمي للاقتصاد السعودي.
قمة العشرين هي ، برأيي، كانت قمة إعادة اكتشاف قدرات المملكة على الصعيدين الاقتصادي والاستثماري، وتسليط الضوء على منجزات القيادة السعودية الحكيمة، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز ولي العهد، حيث تشهد المملكة طفرة هائلة وغير مسبوقة في التخطيط والبناء والتنمية تؤسس لمرحلة مابعد حقبة النفط، وبناء قاعدة استثمارية كبيرة تعتمد على اقتصاد متنوع ومتعدد الروافد والركائز يعزز مكانة المملكة وتأثيرها الاقليمي والدولي.
السعودية صاحبة دور اقتصادي عالمي وهذه حقيقة تستند ـ بجانب ثقلها الديني والروحي الهائل عالميًا، إلى شواهد ومؤشرات عديدة منها امتلاكها لأكبر مخزون نفطي عالمي وباعتبارها القوة التصديرية الأهم لهذه السلعة الاستراتيجية الأهم لاقتصادات دول العالم، كما لدى المملكة خامس أكبر احتياطي مؤكد من الغاز الطبيعي، وتحتل المرتبة الثالثة عالميًا من حيث الموارد الطبيعية، وتشغل المرتبة السابعة وفقًا لمعايير التنافسية العالمية في مجموعة العشرين، فضلًا عن قوتها الاقتصادية وتأثيرها الكبير على البورصات والأسواق المالية الاقليمية والدولية، ويكفي الاشارة إلى أن المملكة تستقطب نحو 70% من السيولة الأجنبية التي تتجه نحو الشرق الأوسط، حيث شهد العام الماضي زيادة في حجم الاستثمارات الأجنبية هي الأكبر التي تشهدها السعودية منذ عقد كامل، كما ارتفعت الاستثمارات الأجنبية التي استقطبتها الأسواق السعودية خلال العام الفائت بنسبة 54% مقارنة بالعام السابق، في تحول نوعي كبير للاقتصاد السعودي باتجاه الاعتماد على توسيع القاعدة الاستثمارية والحد من الاعتماد على النفط، حيث أصبح أكبر اقتصاد عربي موضع انظار الشركات العالمية في مختلف القطاعات والمجالات بحثًا عن فرص بعد إزالة كافة القيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي كأحد مستهدفات ومكتسبات رؤية 2030.
وفي إطار الطموحات السعودية الواعدة، وبالروح ذاتها، تسعى القيادة السعودية إلى الاسهام الجاد في إيجاد المخارج والحلول الداعمة لجهود اقتصادات العالم للخروج من العثرة الناجمة عن تداعيات تفشي وباء "كورونا"، حيث يحتاج العالم في الفترة الراهنة إلى جهود دؤوبة ودعم مخلص لتقريب وجهات النظر وتعزيز التعاون وتنسيق الجهود من أجل العمل بروح الفريق في مواجهة تداعيات تؤثر في الاقتصاد العالمي ككل، ويتأثر بها الجميع من دون استثناء، وتتطلب مواجهة جماعية تحد من الآثار والخسائر التي تحاصر الكثير من الاقتصادات الكبرى والصغرى على حد سواء، لاسيما أن القيادة السعودية قد تعهدت منذ تسلم المملكة لرئاسة القمة في ديسمبر الماضي بالعمل على تعزيز التوافق العالمي، والتعاون مع شركاء المجموعة للتصدي لتحديات المستقبل، وهي تحديات تفاقمت بشدة إثر تفشي وباء "كورونا" الذي خلّف، ولا يزال، تصدعات وخسائر باهظة لاقتصادات العالم كافة، أضف إلى ذلك أن شعار القمة وهو "اغتنام فرص القرن الحادي والعشرين للجميع" وأهدافه المتفرعة المعبرة والتي تتمحور حول تمكين الانسان والحفاظ على كوكب الأرض وتشكيل آفاق جديدة، جميعها باتت تمثل مطالب تسعى المملكة إلى تحقيقها بالتعاون مع بقية الشركاء وصولًا إلى امن واستقرار الاقتصاد العالمي، لما لذلك من صلة وثيقة بالأمن والاستقرار العالمي الذي تنشده المملكة وتسعى إلى الاسهام في تحقيقه منذ اليوم الأول لتوليها رئاسة المجموعة بالشراكة والتعاون مع الشركاء الدوليين كافة.
مثلت القمة أيضًا فرصة ثمينة لتعزيز الثقة والشراكات القائمة بين المملكة والاقتصادات الكبرى، حيث تجد هذه الاقتصادات في المشروعات التنموية السعودية الكبرى فرص استثمارية ضخمة تسهم في انتشال هذه الاقتصادات من كبوتها، حيث أكدت المملكة سعيها الحثيث لايجاد حلول مبتكرة تساعد الاقتصاد العالمي على تجاوز الأزمات التي تواجه الاقتصاد العالمي والبحث عن السٌبل الفعالة لدعم الصناعة وتعزيز التجارة العالمية كقاطرة للتنمية والنمو في هذه الظروف الصعبة. ويكفي المملكة أنها تضرب للعالم المثل والنموذج في كيفية مواجهة تحديات تفشي وباء "كورونا" سواء من خلال استراتيجية التعامل الذكية مع تفشي الفيروس، والتي شهد بها جميع الخبراء والمتخصصين في العالم، أو من خلال استمرار التطور التنموي في ظل هذه التحديات، خيث ذكر كتاب التنافسية العالمية 2020 أن ترتيب المملكة قد تحسن في عدة محاور رئيسية منها الأداء الاقتصادي (تقدمت المملكة من المركز ألـ30 إلى المركز ألـ20) ومحور كفاءة الأعمال (تقدمت المملكة من المركز ألـ25 إلى المركز ألـ19)ومحور البنية التحتية الذي تقدمت فيه المملكة مرتبتين عن قبل، لتحليل بهذه التطورات المرتبة العاشرة عالميًا في مرونة الاقتصاد، حيث تقدمت المملكة العربية السعودية من المرتبة 26 إلى المرتبة الـ24، وذلك من بين 63 دولة هي الأكثر تنافسية في العالم، متقدمة بذلك مرتبتين عن العام الماضي، رغم الظروف الناجمة عن تفشي جائحة "كورونا" في جميع دول العالم.
قمة مجموعة العشرين برئاسة المملكة العربية السعودية كانت مرآة وترجمة حقيقية لواقع المملكة ومكانتها وثقلها الاستراتيجي إقليميًا ودوليًا، وهي أيضًا محطة لانطلاقة جديدة للمملكة نحو تعزيز هذه المكانة بما يعود إيجابًا بنتائج طيبة ومثمرة على منطقتنا الخليجية والعربية.