في موقفهما المشترك بشأن ملكية الموارد الطبيعية المتضمنة حقل "الدرة" الغازي، قال بيان صادر عن المملكة العربية السعودية ودولة الكويت أنهما "تؤكدان مجدداً أن ملكية الثروات الطبيعية في المنطقة المغمورة المقسومة بما فيها حقل الدرة بكامله هي ملكية مشتركة بين المملكة العربية السعودية ودولة الكويت فقط، ولهما وحدهما كامل الحقوق السيادية لاستغلال الثروات فيها". وجدد الجانبان الدعوة لإيران للتفاوض حول الحد الشرقي للمنطقة المعنية مع البلدين باعتبارهما طرف تفاوضي واحد "وفقا لأحكام القانون الدولي ومبادىء حسن الجوار".
على الرغم من أن صياغة البيان السعودي ـ الكويتي المشترك قد جاءت على درجة عالية من الحرفية والدقة والرصانة والهدوء، فإن الرد الإيراني الذي لم يتأخر كثيراً وقد عكس أموراً عدة يلفت نظري من بينها إستمرار غلبة العنجهية والإستعلاء على الخطاب السياسي الإيراني في أي قضية خلافية مع دول الجوار الخليجي؛ ففي مواجهة السعي العقلاني لإثبات الحقوق المشروعة للدول والشعوب بالطرق الحضارية المتعارف عليها والتي أنتجتها صيغ العلاقات الدولية المعاصرة، ولاسيما الإلتزام بالقانون الدولي ومبادىء حسن الجوار، جاء الرد الإيراني على لسان وزير النفط جواد أوجي الذي قال إن طهران تتابع حقوقها ومصالحها فيما يتعلق بحقل "آرش" الغازي، الذي تعتبره حقلا مشتركا مع الكويت والسعودية، و"لن تتسامح مع أي إنتهاك لحقوقها"، دون أي إشارة لإمكانية معالجة الخلاف في الإطار القانوني أو مراعاة للمبادىء التي لا تكل إيران ولا تمل من إجترارها في التصريحات والخطب الرسمية وفي مقدمتها التعاون وحسن الجوار!
ما يستحق التغيير فعلياً في إيران هو هذه اللغة الإستعلائية والنظرة الفوقية التي تحاول طهران التعامل بها مع دول الجوار، وللموضوعية هي نظرة لا تقتصر على دول مجلس التعاون الخليجي، حتى لا يقول أحدهم أن هناك فارق في موازين القوى وغير ذلك وهذا أمر غير دقيق تنفيه الاحصاءات والمؤشرات الكمية والنوعية، ولكنه خطاب ينسحب على علاقات إيران الدولية في مجملها.
هناك إستعلاء إيراني في التعامل مع العالم، وهناك لغة غير حضارية تفتقر إلى أبجديات الدبلوماسية، تستخدم في التعبير عن المواقف السياسية الايرانية وهذا واقع ملموس وله شواهد ودلائل لا تعد ولا تحصى، ولكن هذا الأمر لا يعنينا في هذا النقاش لأن الخطاب الإيراني بشكل عام هو خطاب دعائي مؤدلج وليس خطاباً سياسياً مهنياً إحترافياً، حتى أن الدبلوماسيين الايرانيين المحترفين يلجؤون إلى التعبير بنفس تعبيرات قادة الحرس الثوري والميلشيات الطائفية في بعض الأحيان وفيما يخص موضوعات وقضايا معينة لارتباط هذه الملفات والقضايا بأطر عمل وتقسيمات معينة بين مؤسسات وأجهزة النظام الإيراني، بحيث يتحول الأمر في بعض الأحيان إلى سباق على إظهار التشدد والتطرف أحياناً في التعبير عن المواقف والسياسات الإيرانية!
استثناءً مما سبق، نلحظ أن اللغة الخطابية الإيرانية تجاه جوارها الخليجي وفيما يتعلق بالموضوعات والملفات الخلافية، تأتي مصحوبة بالتلويح بتهديد أو وعيد، وهو أمر لا يتسق إجمالاً مع المسار المعلن للعلاقات بين طهران وهذه الدول، حيث نجد تقارباً متنامياً في العلاقات السعودية ـ الإيرانية، وكذلك الحال بالنسبة للكويت، وهناك حديث إيراني متكرر عن خطط مستقبلية جيدة لتعزيز العلاقات مع دول مجلس التعاون، ولكن كل هذه الشواهد الإيجابية سرعان ما تذهب أدراج الرياح حين يتعلق الأمر بقضية أو موضوع خلافي قابل للتسوية عبر القانون الدولي، أو الحوار المباشر مثلما يحدث بالنسبة لموضوع حقل "الدرة"، لاسيما أن مسائل مثل الحقوق الغازية المتداخلة عبر الحدود البحرية وغيرها بات لها قواعد قانونية مستقرة دولياً وحالات مشابهة وتجارب وخبرات دولية متراكمة يمكن الإستعانة بها في التوصل إلى حلول وتسويات ترضي، أو بالأحرى تقنع جميع الأطراف المعنية.
لا أجد ـ كمراقب ـ معضلة كبيرة في هذا الموضوع لو أن الجانب الإيراني يؤمن فعلياً بما يقول، ولاسيما في تصريح وزير النفط أوجي الذي قال فيه "لطالما دعمت الحل الودي لقضايا الحدود البرية والمائية مع الجيران"، فلو أن هذا هو الموقف الإيراني الثابت فلم إذاً الحديث عن "عدم التسامح"، خصوصاً أن الطرف الآخر، المملكة العربية السعودية والكويت لا يريد انتهاك الحقوق بل يعبر عن موقفه ورؤيته لحقوقه، وهذا أمر مشروع ولا غبار عليه، ويدعو في الوقت ذاته لحل قانوني في إطار مبادىء حسن الجوار.
الخلاصة هنا أن من حق إيران أن تعبر عما تراه من حقوق وقناعات في مختلف الموضوعات والقضايا والملفات، ولكن تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي وترسيخ مبادىء حسن النوايا والجوار الطيب لن يكون سوى بالتخلي عن محاولات فرض الأمر الواقع، واللجوء دائماً إلى التفاهم والآليات القانونية المتفق عليها دولياً في تسوية الخلافات. وجميع الحالات الدولية المناظرة لها قواعد وأسس للتعاطي معها، ولا يمكن أن يُعالج اختلاف المواقف فيها عبر لغة التهديد أو فرض الأمر الواقع، كما تحاول إيران أن تفعل في ملفات أخرى إقليمية، لاسيما ومنطقتنا تعيش واقعاً جيوسياسياً جديداً، يأمل الجميع أن يجلب الأمن والإستقرار إلى منطقة هي في أمّس الحاجة إليه لمواصلة مسيرة التنمية وإستراتيجيات التحديث والتطور الطموحة.