رغم تأكيد المسؤولين الإيرانيين باستمرار على أولوية ملف التعاون مع دول مجلس التعاون ضمن سياسات الحكومة الإيرانية خلال المرحلة المقبلة، فإن هناك إختبار جيوسياسي جاد ينتظر هذه النوايا. وأهمية إختبار النوايا الإيرانية تنطلق من أن أفعال طهران منذ عام 1979 تتنافر مع أقوالها، والحديث عن حسن الجوار، والسعي لتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمي ليس عابراً في الخطاب السياسي الإيراني، فهو نص متكرر وقالب من القوالب المحفوظة في الأدبيات السياسية الإيرانية منذ سنوات وعقود طويلة، لذا فإن المرحلة الجديد من التوافق عبر ضفتي الخليج العربي ينتظرها إختبار حقيقي يتمثل في موقف إيران بشأن ترسيم الحدود البحرية، وتحديداً ما يتعلق بحقل الدرة.
دولة الكويت أعلنت مؤخراً أن "الكويت والسعودية طرف تفاوضي واحد مقابل إيران في ترسيم الحدود البحرية ولنا حقوق خالصة في الثروة الطبيعية في حقل الدرة"، وأكد مصدر كويتي رسمي أن "المنطقة البحرية الواقع بها حقل الدرة تقع في المناطق البحرية لدولة الكويت وأن الثروات الطبيعية فيها مشتركة بين دولة الكويت والمملكة العربية السعودية واللتين لهما وحدهما حقوق خالصة في الثروة الطبيعية في حقل الدرة".
كانت الكويت قد وقعت في مارس 2022 مع السعودية اتفاقية لتطوير الحقل بشكل مشترك، لذا فقد أيدت السعودية رفض الكويت الإعتراف بالمطالبات الإيرانية بمخزونات الغاز الطبيعي في هذا الحقل. على الجانب الآخر، أعلن الرئيس التنفيذي لشركة النفط الإيرانية محسن خجسته مهر، أن الشركة التي يترأسها بدأت الإستعداد لمباشرة العمل في منطقة حقل الدرة، وأن طهران اتخذت هذا القرار بسبب عدم إستعداد الرياض والكويت للتفاوض حول الموضوع، وهو أمر كاف للدلالة على أن إيران لم تتغير كثيراً وأن من يراهن على حدوث تحولات جوهرية في السلوك والسياسات الإيرانية يجازف برهانه على طرف لا يزال يتمترس حصرياً وراء مصالحه من دون أخذ مصالح الآخرين ومواقفهم بل وسيادتهم الوطنية على أراضيهم ومياههم الإقليمية وحدودهم البحرية، بالاعتبار!
استعداد إيران الرسمي المعلن لبدء التنقيب في حقل الدرة يضعها في مواجهة مباشرة مع الموقفين السعودي والكويتي، حيث أكدت طهران مراراً أنه لا توجد أي حقوق مشتركة موضع نزاع مع الجانب السعودي تحديداً، وأنه تم ترسيم كل الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية، ولا تشير مطلقاً لحقل الدرة الذي تؤكد أنه يقع ضمن منطقتها الاقتصادية، فيما أوردت وكالة الأنباء السعودية (واس) عن مصدر مطلع في وزارة الخارجية قوله إن "ملكية الثروات الطبيعية في المنطقة المغمورة المقسومة بما فيها حقل الدرة بكامله، هي ملكية مشتركة بين المملكة العربية السعودية ودولة الكويت فقط، ولهما وحدهما كامل الحقوق السيادية لاستغلال الثروات في تلك المنطقة. وأضاف المصدر أن "المملكة تجدد دعواتها السابقة للجانب الإيراني للبدء في مفاوضات لترسيم الحد الشرقي للمنطقة المغمورة المقسومة بين المملكة والكويت كطرف تفاوضي واحد مقابل الجانب الإيراني".
جميع الحالات الدولية المناظرة لها قواعد وأسس للتعاطي معها، ولا يمكن أن يحل إختلاف المواقف فيها عبر القوة أو فرض الأمر الواقع، كما تحاول إيران أن تفعل في ملفات أخرى إقليمية أهمها وأبرزها موضوع الجزر الإماراتية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى)، التي تحتلها، وتصر على أنها "جزء لا يتجزأ من إيران" بالمخالفة الفاضحة لكل الوثائق والأدلة القانونية والتاريخية التي تؤكد أحقية دولة الإمارات في هذه الجزر.
إيران تحاول أن تطبق النهج ذاته على حقل الدرة، وتجد نفسها هنا في مواجهة مع الواقع الجيوسياسي الجديد، حيث عادت علاقاتها مع دول مجلس التعاون إلى مسارها الطبيعي المفترض، حيث استؤنفت العلاقات الرسمية عبر طرق وقنوات وآليات مختلفة بين طهران وجيرانها الخليجيين، لكن إصرار طهران على ما تزعم أنها حقوقها في هذا الحقل يضع التطورات الأخيرة موضع إختبار لنوايا الإيرانيين ومدة جديتهم في طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة عنوانها التعاون الإقليمي المشترك وإعلاء مصالح الدول والشعوب.
قناعتي أن دول مجلس التعاون لا ترغب في إثارة خلاف أو نزاع إقليمي مع إيران بشأن حقل الدرة أو غيره، ولكنها في الوقت ذاته تحرص على حماية حقوقها المشروعة ومصالح شعوبها، لاسيما أن موقفه برمته يمكن معالجته في إطار القوانين الدولية الناظمة للحقوق البحرية السيادية للدول، والمسألة لا يمكن أن تستقيم بالادعاءات ومنطق الإذعان، وبالتالي يفترض أن يتخلى الجانب الإيراني عن عنجهيته المعهودة في التعاطي مع القضايا التي تخص دول الجوار الإقليمي، ولا نقول أن يتعامل معها وفق منطق حسن الجوار، لأن هذا المنطق غائب في الواقع عن طهران ما لم يكن يتماهى مع مصالحها، ولكن يتعامل وفق القوانين الدولية، ليأخذ كل ذي حق حقه، وليس في ذلك أي غضاضة طالما أن الإيرانيين يرغبون ـ بحسب قولهم ـ في فتح صفحة جديدة من التعاون المشترك.