"وهم المسافة" هو تعبير نقلته التقارير الإعلامية على لسان إسحق هرتسوغ الرئيس الإسرائيلي في إطار حديثه خلال زيارة إلى مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل، حيث طالب الحلف بتشديد نهجه تجاه إيران في وقت تزوّد فيه طهران، روسيا بطائرات مسيّرة تستخدمها موسكو في حربها في أوكرانيا، منطلقاً من أن الإعتماد على فكرة البعد الجغرافي بين إيران ودول الحلف مسألة وهمية في ظل تنامي قدرات إيران الصاروخية، والتي تجعلها قادرة على إستهداف النطاق الإستراتيجي للحلف وأي من دوله الأوروبية. وقال هرتسوغ إنّ "الأزمة تتخطّى حدود أوكرانيا، مع وصول التهديد الإيراني الآن إلى أعتاب أوروبا"، مشيراً إلى أنّ "وهم المسافة لا يمكن أن يستمرّ. على حلف شمال الأطلسي أن يتّخذ أقوى موقف تجاه النظام الإيراني بما يشمل عقوبات إقتصادية وقانونية وسياسية وردعاً عسكرياً موثوقاً به".
السؤال الذي يطرح نفسه على الخلفية السابقة يتعلق بحدود دور حلف الأطلسي في التعامل مع التهديد الإيراني، وفي الرد على ذلك يمكن الإشارة إلى أن ملف إيران يبدو بعيداً عن الدائرة المركزية لإهتمامات الحلف، على الأقل في المرحلة الراهنة، بالنظر إلى شعور الحلف بالتحدي الإستراتيجي الخطير الناشىء عما يمكن تسميته بالإختبار الروسي الذي وجد الحلف نفسه فيه منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، حيث تتعرض حدود الحلف وفاعليته لاختبار ثقة/ فاعلية غير مسبوق منذ انتهاء حقبة الحرب الباردة وإنهيار الإتحاد السوفيتي السابق.
الشواهد تقول إن حلف الأطلسي ليس بعيداً عن مراقبة تدخلات إيران في الحرب الأوكرانية، حيث سبق أن أكد الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ أن خطط إيران لتزويد روسيا بأسلحة ومسيّرات هي أمر "غير مقبول". إيران من جانبها تلقى باللوم والمسؤولية على الحلف منذ بداية الأزمة وترى أن "إستفزاز" الأطلسي لروسيا قد تسبب في نشوب الأزمة الأوكرانية.
الحقيقة أن لحلف الأطلسي مواقف سابقة تجاه التهديد النووي والصاروخي الإيراني حيث أعرب الحلف مراراً عن "قلقه" حيال قرب إمتلاك إيران لسلاح نووي بالإضافة إلى قدرتها على توصيله عبر برنامجها الصاروخي، وقال الأمين العام ستولتنبرغ أثناء استضافته في شبكة CNN الأمريكية: "إيران مصدر قلق لأنها مسؤولة عن أنشطة مزعزعة لإستقرار المنطقة، نحن قلقون إزاء برنامجها الصاروخي، ولكن ردود الفعل الأطلسية هذه ظلت في إطار محدد دون تراجع أو تطور على المستوى الكلامي أو الخطابي.
في تحليلي لموقف الحلف يجب أن نتوقف أولاً عند ميثاق الحلف ورؤيته الإستراتيجية لمصادر التهديد، وفي ذلك يمكن الإشارة إلى أن الميثاق التأسيسي للحلف ينص عل عدم التدخل في أزمات سوى في حالة وجود تهديد مباشر لأحد اعضائه، وهو مايحول دون تدخل الحلف بشكل مباشر في الأزمة الأوكرانية، مكتفياً بتعزيز دفاعات الدول الأعضاء المجاورة لأوكرانيا، والاستعداد للدفاع عن هذه الدول في حال توسع الحرب ووقوع هجوم روسي عليها.
ورغم أن حلف الأطلسي قد تدخل عسكرياً في ليبيا عام 2011، في حالة غير مسبوقة للتدخلات الأطلسية خارج نطاق عمل الحلف، فإن هذه الحالة غير قابلة للتكرار في حالات أخرى لاسيما خلال المرحلة الراهنة، حيث يعاني الحلف حالة من التشتت سواء بسبب الوضع الأمني الناشىء عن حرب أوكرانيا، أو بسبب الخلافات القائمة بين بعض أعضاء الحلف مثل التوترات بين تركيا واليونان، والعقبات التي تحول دون إنضمام دول أخرى للحلف مثل السويد بسبب إعتراض تركيا وغير ذلك من أمور تبعد ملف إيران عن أولويات الحلف حالياً، وحيث يصعب بناء قرار جماعي داخل الحلف بشأن إتخاذ قرار رادع ضد إيران ناهيك عن التدخل العسكري ضدها، فضلاً عن أن تدخل الأطلسي في أي نزاع يتطلب قرار أممي كما حدث بالنسبة في حالة ليبيا.
بالاضافة إلى ماسبق، فإن حلف الأطلسي لن ينظر إلى التهديد الإيراني في الوقت الراهن كأولوية قصوى له حتى لو كان هذا التهديد يتماس مع أمن الطاقة الذي يعد أحد أبرز إهتمامات الحلف، وذلك لسبب بسيط هو أن هناك قلق فعلي لدى قادة الحلف من إتساع القتال في أوكرانيا، كما أن الحلف يرى في هذه الأزمة "قبلة أوكسجين" أعادت الحلف للحياة بعد فترة طويلة من النقاشات حول أزمة الدور والهوية التي يعانيها الحلف منذ إنتهاء الحرب الباردة، حيث أعادت الحرب في أوكرانيا ملف الأمن الجماعي الأطلسي إلى واجهة النقاشات الغربية، كما أكدت أهمية إستمرار التعاون بين الولايات المتحدة وشركاء الأطلسي الأوروبيين لمواجهة ما يعتبرونه تهديداً وجودياً روسيا، وهو ماتجسد في إعلان حلف الأطلسي عن خطط جديدة لزيادة عدد قوات الرد السريع بشكل لافت من 40 ألفا إلى أكثر من 300 ألف جندي، ورفع الإنفاق العسكري بعد أن انتقلت روسيا من خانة الشريك الإستراتيجي بحسب الوصف السائد منذ عام 2010 إلى كونها "تهديداً مباشراً" لأمن الحلف.
علينا أن نتذكر جيداً أن الحلف قد تعامل بحذر بالغ في أزمة أوكرانيا التي تتمتع بصفة شريك أطلسي، حيث يخشى الحلف منذ بداية الأزمة إرسال قوات بما قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع روسيا، كما رفض الحلف مطالب كييف بفرض منطقة حظر طيران فوق أراضي البلاد خشية الصدام المباشر مع روسيا أيضاً، حيث يتمسك الحلف بكونه "حلف دفاعي بحت".
الخلاصة فيما سبق كله أن حلف شمال الأطلسي لن يذهب إلى مدى أبعد في التعاطي مع التهديدات النووية والصاروخية الإيرانية، وستبقى مواقفه عند الحد الأدنى الخاص بالتعبير عن القلق ورفض السياسات والسلوكيات الإيرانية، لمجرد إثبات المواقف، وهنا نشير إلى تصريح مهم وكاشف أدلى به أمين عام الحلف ينس ستولتنبرغ في يونيو عام 2018، حين أكد أن الحلف لن يقدم على مساعدة إسرائيل دفاعياً في حال هاجمتها إيران، وأضاف ستولتنبرغ في تصريحات نشرتها مجلة "دير شبيغل" الألمانية، وقتذاك، أن إسرائيل "دولة شريكة" وليست عضو في حلف شمال الأطلسي، وأوضح أن الضمانة الأمنية التي يوفرها حلف الناتو لأعضائه لا تنطبق على إسرائيل، وشدد أمين عام حلف شمال الأطلسي على عدم إنخراط الحلف الناتو في النزاعات التي تشهدها المنطقة.
قناعتي أن إسرائيل تدرك جيداً حقيقة موقف الحلف، ولكنها تسعى إلى حلحلة هذا الموقف، ولكن فرص نجاحها في ذلك تبدو محدودة للغاية أو هي معدومة، ولاسيما في ظل إحتدام الأزمة في أوكرانيا وغياب أي أفق واضح لتسويتها، وبالتالي تبدو "المسافة" التي يستشعرها الحلف، جغرافياً، أوكرانيا أولى وأهم من التداخل مع تهديدات إيران سواء كانت نووية أو صاروخية رغم تصريحات الرئيس الإسرائيلي عن "وهم المسافة".