في تصريح لافت، قال العميد رمضان شريف المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني في تصريح صحفي إن "إسرائيل تلقت ردوداً موجعة على الهجمات الفاشلة في إيران" مفضلاً عدم الإفصاح عن طبيعة هذه الردود في الوقت الحاضر، وهو ما يطرح ـ لدى المراقبين ـ تساؤلات بديهية حول حقيقة هذا التصريح وقدرة إيران على توجيه "ردوداً موجعة" من دون الإعلان عنها.
في الإجابة عن هذه التساؤلات المهمة يمكن القول بأن التصريحات "النارية" المتبادلة بين القيادات والمسؤولين الإيرانيين والإسرائيليين ليست أمراً جديداً، بل تعد أحد كلاسيكيات العلاقة المتوترة بين الخصمين الإستراتيجيين، وهي كذلك أحد أدوات "البقاء السياسي" لدى الطرفين، فالقادة الإيرانيين يستغلون التهديد الإسرائيلي ـ بجانب الأمريكي ـ لمحاولة تركيز الأنظار على ما يعتبرونه تهديداً وجودياً لبلادهم من دون الإشارة إلى أن العداء ينحصر بالأساس حول النظام وليست إيران ـ البلد والشعب ـ وعلى الجانب الآخر يعد التهديد الإيراني احد الروافع الإستراتيجية لأسهم النخب الإسرائيلية في إطار الصراع على السلطة والوصول للحكم.
وإذا كانت التهديدات المتبادلة التي تصل إلى حد "الإبادة" خصوصاً الصادرة من الجانب الإيراني، مستمرة من دون إنقطاع فإن تصريحات مسؤول الحرس الثوري بشأن توجيه رد على على هجمات أصفهان الأخيرة، يفتقر إلى دلائل وبراهين أو حتى شواهد رمزية، وإن كان من الصعب نفيه بشكل قطعي أو اعتباره جزء من الحرب النفسية المشتعلة بين الجانبين، لاسيما ان مايدور بينهما في السر يفوق بمراحل ما يحدث في العلن، وأن جزءاً كبيراً من "قواعد اللعبة" الصراعية الدائرة يكمن في التخفي والتنصل من المسؤولية تفادياً للوقوع تحت طائلة المحاسبة القانونية على الأقل، أو بدافع التشويش على أفكار الطرف الآخر والابقاء على هامش المناورة الذي يحتاجه أي قرار تصعيد للصراع وقت اللزوم ضمن حالات الدفاع الشرعي عن النفس طبقاً للقانون الدولي.
الصراع الإيراني ـ الإسرائيلي بات يدور بشكل تقليدي وغير تقليدي (معلوماتي وسيبراني)، وباتت ساحاته مفتوحة جوا وبراً وبحراً، ويخوض الطرفان هذا الصراع بشكل مباشر أو عبر وكلاء، وتذهب معظم أنباء هذه الحرب الخفية إلى ملفات استخباراتية سرية ولا يعلن منها سوى القليل، وهذا ما يبرر وجود إحتمالية ولو ضئيلة لقيام الحرس الثوري بالرد على إسرائيل مع الإكتفاء بخطوط عريضة للإعلان لتحقيق غرض سياسي لا يبقى على مسؤولية محددة؛ بمعنى أن النظام الإيراني الذي يمر بمرحلة إهتزاز في الثقة بالنفس بسبب الإحتجاجات الشعبية المتواصلة، وتعاظم الضغوط الخارجية الناجمة عن العقوبات، فضلاً عن إنهيار محاولات إحياء الإتفاق النووي وتحول علاقات إيران مع الغرب إلى شكل من أشكال العزلة التامة مع تدهور العلاقات مع أوروبا بسبب الموقف الإيراني تجاه حرب روسيا في أوكرانيا، تملي هذه الظروف على النظام ضرورة السعي لحفظ ماء الوجه ـ ولو زيفاً ـ أمام مؤيديه في الداخل وعلى الصعيد الإقليمي (الأذرع والميلشيات الطائفية) بعدما تسبب الإختراق الذي حدث في أصفهان مؤخراً في كشف حالة الترهل والضعف الأمني الذي يعانيه النظام الإيراني رغم كل إدعاءات التفوق وما يثار بشأن انجازات عسكرية لا تخلو منها وسائل الإعلام الإيرانية يومياً.
هناك حاجة مُلحة لاستعادة بعض الثقة في أعين المؤيدين إذاً، وهذه الحاجة ربما تدفع الحرس الثوري تحديداً باعتباره المسؤول الأول عن أمن النظام للإدعاء بأن ثمة رد قد تم تنفيذه، وهو إدعاء فضفاض لا يتيح للطرف الآخر (إسرائيل) فرصة نفيه او إنكاره بالنظر لأن المعلومة غائبة أو مجهّلة ويصعب نفيها بشكل قطعي تام، وهذه بالمناسبة إحدى تكتيكات النظام الإيراني لمحاولة كسب الثقة في مثل هذه الظروف، علاوة على أن هذا التصريح يمكن أن يوفر للطرف الآخر أيضاً فرصة إخفاء الأمر والإبقاء على الكسب الدعائي الناتج عن هجوم أصفهان، والذي نسب لإسرائيل ضمناً وحصلت على نقاطه رغم احتفاظه بسياسة التكتم والغموض حيال هذه الوقائع بغض النظر عن مسؤوليتها. كما يمكن أن يفهم إسرائيلياً من هذه الرسالة الإيرانية الضمنية أنه لا رد يتم الإعداد له أو في الأفق لأن تجهيز او الإستعداد للرد لا يستدعي الإعلان عن رد وهمي، بل انتظار رد حقيقي أكثر تأثيراً ومصداقية. هذا الكلام لا ينفي ـ بالنسبة لإسرائيل ـ أن تكون الرسالة الكامنة في التصريح الإيراني مضللة أو موجهة لصرف الأنظار عن رد قوي محتمل، وهذه بالتاكيد إحتمالية يتم التعامل معها بشكل جاد في ظل موروث الخداع الإستراتيجي المتبادل بين الخصمين.
خلاصة ماسبق وغيره أن الحرب الخفية بين إيران وإسرائيل يصعب معها التحقق من حقيقة تصريحات كل طرف، ولكن الثابت في الموضوع أن الجانب الإيراني يتحاشى تماماً الوقوع في أخطاء تصعيدية تفتح الباب أو توفر الفرصة لحكومة رئيس الوزراء نتنياهو لقصف المنشآت النووية الإيرانية في ظل حالة التعاون والتنسيق القوي في الآونة الأخيرة مع إدارة الرئيس بايدن، فهذا هو الوقت الإيراني الخاطىء تماماً لإستفزاز إسرائيل، التي تتحين الفرصة لأي تصعيد إيراني حتى لو جاء رداً على فعل إسرائيلي.
المسألة إذا ربما تبقى رهينة لتقدير كل طرف لأهمية ما يفعله، حيث يمتلك كلاهما معايير ذاتية لتقييم سلوكه وتأثير أفعاله على الآخر، وهنا يحظى عامل الردع النفسي بأهمية لا تقل عن الجانب التنفيذي أو الحقيقي، ولا يبقى في تقييم تصريحات قيادي الحرس الثوري سوى انتظار تكشف حقائق جديدة من الطرفين أو أحدهما، والأرجح أن تبقى الحرب الباردة الخفية بين الجانبين قائمة ومتصاعدة لتحقيق أهداف أكبر وأهم لاسيما من الجانب الإسرائيلي.