ظل العالم لسنوات طويلة مضت يحصر التهديد الإيراني، القائم والمحتمل، في إمتلاك برنامج نووي وآخر صاروخي، ولكن الحاصل أن المشروع الإيراني الذي حوصر أيضاً في الجانب الأيديولوجي والمذهبي، قد انتقل إلى مربع أكثر خطورة وتأثيراً ليس على الأمن والسلم الإقليمي فقط، بل على الصعيد العالمي أيضاً. لم يكن الدور الذي لعبته المُسيّرات الإيرانية في حرب أوكرانيا هو الأول من نوعه، ولا محطة عابرة في السلوك الإيراني، بل هو قمة جبل الجليد الذي بات يثير قلقاً عالمياً.
بالأمس كشف تقرير إعلامي عن توجه إيران لتعديل وتطوير مسيّراتها كي تستطيع إلحاق أكبر ضرر ممكن بالبنى التحتية الأوكرانية، واعتمد التقرير في معلوماته على بيانات صادرة من منظمة بريطانية تشير فيه إلى أن تزويد المسيّرات الإيرانية "الإنتحارية" المقدمة لروسيا لاستخدامها في حرب أوكرانيا بطبقات من الشظايا المعدنية الهادفة لإحداث أكبر قدر ممكن من الضرر بالمرافق الحيوية مثل محطات الطاقة وشبكات توزيع الكهرباء وخطوط النقل.
ما يعنيني، كمراقب، في مثل هذه التقارير أن أحد أهداف ودوافع التدخل الإيراني في الصراع الدائر في أوكرانيا هو إكتشاف حدود قدرات أسلحتها واختبار هذه الأسلحة في حروب واقعية ومن ثم العمل على تطويرها وتعزيز قدراتها التدميرية، وهو هدف لا يقتصر ـ للموضوعية ـ على إيران فقط، ولكنه يشمل الكثير من الأطراف المتداخلة في هذا الصراع العسكري وغيره، ولكن ما يهمني في المسألة أن إيران تتجه إلى إمتلاك قدرات تدميرية خطيرة في حروب المدن والصراعات غير التقليدية لتراكمها جنباً إلى جنب مع قدراتها العسكرية التقليدية وغير التقليدية الأخرى، وهذه نقطة حيوية للجوار الإيراني، حيث يلعب النظام الإيراني ادوار تخريبية عديدة إبتداءً من لبنان وصولاً إلى اليمن مروراً بالعراق وسوريا وغيرها!
ماسبق يعني أن قدرات إيران التخريبية ستزداد وأنها تستعد لتعزيز دورها كلاعب مثير للفوضى والاضطرابات إقليمياً ودولياً في حال نشوب صراع بين الغرب من ناحية و الصين وروسيا ـ إحداهما أو كلاهما ـ من ناحية أخرى، لاسيما أنه بات من الواضح أن مسألة إرسال مسيّرات إيرانية لروسيا لم تكن شحنة عابرة أو سابقة بحسب إدعاء قادة النظام الإيراني، بل سياسة ممنهجة اتضحت بشكل كاشف في إتفاق موسكو وطهران على تصنيع المُسيّرات الإيرانية في روسيا لإتاحة الفرصة للحصول على كميات كبيرة من هذه الطائرات لتعويض نقص الإمدادات الروسية في أوكرانيا وتحسباً لإطالة أمد الصراع او توسعه لاحقاً.
في مقابل ماسبق، هناك تقارير تشير إلى حصول إيران ـ ضمن مقايضة المصالح ـ على صفقة مقاتلات روسية حديثة تشمل طراز "سو ـ35"، وطرازات أخرى متطورة، في خطوة رمزية تعكس تطور التعاون الإستراتيجي بين البلدين، وهي الخطوة التي اختلف بشأنها الخبراء العسكريين حيث يرى بعضهم أن تغير قواعد اللعبة إقليمياً، من زاوية تعديل موازين القوى بين دول منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط على الأقل لجهة فاعلية القوة الجوية لهذه الدول، بينما اعتبرها آخرون انها تشكل بالأساس تهديداً للامن والسلم الدوليين بحكم موقع إيران المحتمل في الصراع بين الغرب وخصومه الإستراتيجيين، حيث تكفي الإشارة في كلا التقديرين إلى أن "سو ـ35" وشقيقاتها الروسية ستكون أول مقاتلات حديثة تمتلكها القوات الجوية الإيرانية منذ عام 1979، حيث تعتمد القوات الجوية الإيرانية حتى الآن على أسطول قديم من الطائرات الأمريكية التي يعمل الخبراء الإيرانيين على تطويرها في السنوات الأخيرة، ومنها "إف 14" التي تشير الأنباء إلى نجاح خطط تطويرها كي تعمل بفاعلية رغم تقادمها تكنولوجياً وعدم وجود قطع غيار أصلية لها بسبب العقوبات المفروضة على إيران.
إحدى التوابع الخطيرة المتوقعة لتعزيز ترسانة إيران العسكرية أن المسألة لا تستهدف جوانب دفاعية تتعلق بالسيادة الوطنية كما يقول النظام الإيراني الذي يتذرع دوماً بأن جيرانه من دول مجلس التعاون في مقدمة الدول إنفاقا على صفقات التسلح، لسبب بسيط هو أن هذه الدول تعزز بالفعل قدراتها الدفاعية الذاتية ولكن الحالة الإيرانية تحتفظ بخصوصية استثنائية معروفة تتمثل في مواصلة تنفيذ المشروع التوسعي الطائفي الإقليمي، وإرسال الأسلحة للميلشيات والأذرع الطائفية الموالية للنظام في طهران، وهذا يعني أن المزيد من المسّيرات التي تم تطويرها عطفاً على خبرات حرب أوكرانيا ستذهب إلى "حزب الله" في لبنان، وميلشيات عراقية وجماعة "الحوثي" في اليمن مع إحتمالية عالية لاستخدامها في قصف أهداف مدنية داخل دول الجوار كما حدث في مهاجمة المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات من قبل حيث بقى الفاعل مجهول أو مُنكر رسمياً ومعروف للجميع على الأقل لجهة مصدر العتاد العسكري المستخدم!
الأمر لا يقتصر على ماسبق، فالإعلام الإيراني يكشف بشكل شبه يومي عن إنجازات عسكرية جديدة في بلد يعاني تدهور معيشي غير مسبوق، حيث كشف مؤخراً عن قاعدة "عقاب 44" الجوية تحت الأرض، بعد أشهر قلائل من الكشف عن "قاعدة المسيّرات 313"، التي اُنشأت بموقع سري في عمق جبال زاغروس على طول ساحل الخليج العربي، بما لذلك من دلالات لافتة.
النظام الإيراني يتغول بشكل واضح، وجزء من ذلك انعكس في التشدد في المراحل النهائية لإحياء الإتفاق النووي، حيث اتجه المفاوض الإيراني لفرض إملاءات وشروط يدرك مسبقاً أنها مرفوضة، حيث باتت طهران تراهن على انتصار روسيا في حرب أوكرانيا وأن الرئيس بوتين لن يقبل بالهزيمة حتى لو اضطر للجوء إلى سلاح نووي، هذا الإنتصار المحتمل سيغير قواعد اللعبة دولياً بشكل جذري، لذلك تخوض سباق زمني لمراكمة عناصر القوة العسكرية بكافة أشكالها، حيث تقترب من إمتلاك قدرات عسكرية نووية، وترسانة صواريخ باليستية تطال حدود أوروبا، وهذه في مجملها أمور وتطورات خطيرة ينبغي الإنتباه لها إقليمياً ودولياً، فلا أحد يريد حروب جديدة في منطقة يعد أمنها واستقرارها احد أهم رهاناتها المستقبلية.