تشهد كواليس مفاوضات إحياء الإتفاق النووي الموقع عام 2015 بين إيران ومجموعة "5+1" سباق تصريحات لافت للإنتباه، حيث يتبارى الجانبان الأمريكي والايراني في اثبات ونفي تقديم أي تنازلات من اجل إتمام الإتفاق.
الولايات المتحدة أعلنت على لسان جون كيربي مسؤول الإتصالات الإستراتيجية بمجلس الأمن القومي أن واشنطن تعتبر قرار إيران بتقديم بعض التنازلات هو خطوة إيجابية في المفاوضات للعودة إلى خطة العمل الشاملة، وقال كيربي نصاً ""قدمت إيران بعض التنازلات، مما سمح لنا بالوصول إلى هذه المرحلة في المفاوضات حيث نحن الآن. والآن نحن أقرب مما كنا عليه قبل أسبوعين فقط، لأن إيران قررت تقديم بعض التنازلات، هذه خطوة إيجابية إلى الأمام، لكني أود أن أضيف أنه لا تزال هناك فجوات، ولم نصل إلى الهدف حتى الآن"، في الرد على ذلك بادرت طهران بنفي رسمي حول تقديم أي تنازلات من أي نوع!
الواضح في هذا الصراع الجانبي، أن كل من واشنطن وطهران يتصارعان ليس فقط من أجل الحصول على تنازلات فعلية، بل من أجل تسويق أي صيغة سيتم التوصل إليها على أنها إنتصار كبير، وهو مايفسر حرب التصريحات والتصريحات المضادة، والنفي والإثبات حول تقديم تنازلات تفاوضية، وبين هذا وذاك يبدو الوسيط الأوروبي أكثر الحاحاً على التعجيل بتوقيع التفاهمات للسيطرة على أزمة الطاقة المتوقعة في الشتاء المقبل، أو على الأقل الحد من آثارها الضخمة المتوقعة.
قراءة مسار هذه المفاوضات تعكس قدرة إيران على إخضاع الإدارة الأمريكية الحالية لشروطها، ومثال ذلك المطلب الخاص برفع الحرس الثوري الإيراني من قائمة تنظيمات الإرهاب الأمريكية، والذي تم طرحه كورقة تفاوضية شغلت الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكية لفترة طويلة، في حين أن المفاوض الايراني كان يدرك منذ البداية مدى صعوبة تحقق هذا المطلب ولكنه يدرك كذلك، ان سحبه من قائمة المطالب التي يجري التفاوض بشأنها سيكون له مقابل ضخم، ويصنف كتنازل تفاوضي مهم، وهذا ما حدث بالفعل!
إستطاعت طهران أن تستغل اجواء ازمة أوكرانيا جيداً، وهي تدرك حجم الضغوط النفسية والمعنوية الواقعة على الوسطاء الأوروبيين، الذين يأملون سرعة إعادة النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية لتعويض جزء من نقص الطاقة الناجم عن الحرب، وتقديم رسالة إيجابية للأسواق بما يسهم في خفض الأسعار.
التسريبات الإعلامية الامريكية تتحدث عن محفزات إقتصادية راهنت عليها الإدارة الأمريكية لجذب إيران للاتفاق مجدداً، وهو ما تقدره إسرائيل بنحو مائة مليار دولار ستحصل عليها إيران سنوياً عقب العودة للإتفاق، في حين يريد البيت الأبيض الفوز بالتوقيع الذي يسوق له باعتباره تأجيلاً للتهديد النووي الايراني!
المعركة الآن بانتظار قناعة كل من الطرفين، الإيراني والأمريكي، بقدرتهما على تسويق التوقيع داخلياً، باعتباره إنتصاراً سياسياً له، فالإدارة الأمريكية تحاول تصوير الأمر باعتباره "إنجازا نوعياً كبيراً" يحسب لها ويعالج خطأ إدارة الرئيس السابق ترامب بالإنسحاب من الإتفاق عام 2018، وإيران من جانبها ستعلن نجاحها في كسر إرادة الأمريكيين وإجبارهم على تقديم تنازلات ورفع العقوبات.
بلا شك أن كلا الطرفين، كانا يبحثان خلال الأشهر الأخيرة عن مخرج لحفظ ماء الوجه، فلم يكن لدى أي منهما القدرة على تحمل عواقب الفشل، فلا إدارة بايدن تمتلك إستراتيجية بديلة فاعلة للتعاطي مع التهديد النووي الايراني، ولا طهران تستطيع مواصلة تحمل آثار العقوبات القصوى الأمريكية أكثر من ذلك.
يتبقى هنا سؤال مهم هو: هل تستطيع إدارة بايدن إقناع معارضيها ومنتقديها بصيغة التفاهم المحتملة لإحياء الإتفاق النووي؟ الجواب هو لا على الأرجح، لأنه رغم الجهود الأمريكية الحثيثة لإمتصاص ردة الفعل الإسرائيلية الغاضبة والرافضة للعودة للإتفاق بصيغته الحالية، فإن إعلان إسرائيل عدم إلتزامها بالإتفاق يحد من قدرة البيت الأبيض على المناورة وتسويق الأمر باعتباره إنجازا سياسياً لها. وفي ذلك يقول رئيس الوزراء الاسرائيلي يائير لابيد "إسرائيل ليست ضد أي إتفاق ..نحن ضد هذه الإتفاق لأنه سيئ..لا يمكن قبوله كما هو مكتوب الآن"، وأردف: "على الطاولة الآن صفقة سيئة..ستعطي إيران مائة مليار دولار في السنة..هذا المال لن يبني مدارس أو مستشفيات..هذه مائة مليار دولار سنويا ستُستخدم لتقويض الإستقرار في الشرق الأوسط ونشر الرعب في جميع أنحاء العالم"، على حد قوله.واستطرد: "هذه الأموال ستمول الحرس الثوري..سوف تمول الباسيج الذين يضطهدون الشعب الإيراني..وستمول المزيد من الهجمات على القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط، وستستخدم لتقوية حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي"، وتابع: "إذا تم التوقيع على صفقة، فإنها لا تلزم إسرائيل ..سنعمل على منع إيران من أن تصبح دولة نووية. والمعضلة هنا أن إيران تقدم بنفسها الدلائل على منطقية وجهة النظر الإسرائيلية، ومثال ذلك الهجمات التي شنتها مؤخراً ميلشيا موالية لإيران على القوات الأمريكية في شرق سوريا، ما يجعل مهمة البيت الابيض في تسويق وجهة نظره داخلياً صعبة إن لم تكن مستحيلة.
إحدى الإشكاليات التي تواجه البيت الأبيض أن رئيس الوزراء الاسرائيلي يائير لابيد لا يستطيع قبول صيغة إتفاق رفضها أسلافه من رؤساء الوزراء، وفي وقت وظروف عدم الإستقرار السياسي الداخلي والتنافس الشرس الذي يسبق الإنتخابات العامة المقررة أول نوفمبر المقبل، وهو التوقيت ذاته الذي يسعى بايدن لإستباقه وإنقاذ فرص الديمقراطيين في إنتخابات التجديد النصفي للكونجرس.