نقلت تقارير إعلامية مؤخراً عن عضو هيئة الرئاسة في مجلس الخبراء الايراني أحمد خاتمي قوله أن الولايات المتحدة الأمريكية "تحاول اختراق إيران من خلال مطاعم الساندويتشات مثل ماكدونالدز" وأضاف أن "أي مكان تريد أميركا الدخول إليه يكون عن طريق ماكدونالدز والساندويتش، إذ تفتح بذلك ثغرات للدخول"، بحسب ما نقل عن كالة "إسنا" الإيرانية.
خاتمي كان يتحدث أمام حشد كبير من قوات "الباسيج" (قوات التعبئة الشعبية التابعة للحرس الثوري الإيراني) واعتبر أن قادة إيران يعرفون هذه "الحقيقة" ولكن البعض يخشى التصريح بها ولذا فلم ينطق بها سوى مرشد الثورة نفسه علي خامنئي!
حديث أحمد خاتمي في هذا الشأن سبق أن ردده المرشد الأعلى علي خامنئي بالفعل ولكن في سياقات مغايرة حيث حذر من "الغزو الثقافي" و"التغلغل الأمريكي"، كما أشار ممثل خامنئي في الحرس الثوري الإيراني علي سعيدي أيضاً إلى فكرة التغلغل الأمريكي من خلال سلسلة مطاعم "ماكدونالدز" في تصريحات نشرت له مؤخراً، حيث اعتبر سعيدي أن "التحول الثقافي وتأسيس محلات ماكدونالدز أدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي".
وقد سبق أن تناولت في مقالات سابقة لي موضوع قلق إيران الحقيقي من فكرة الانفتاح على الغرب، وذكرت أن إدارة أوباما "تتسلل" فكريا إلى إيران وتلجأ إلى تكتيكات الحرب الباردة في تفكيك البنية الأساسية للأنظمة الأيديولوجية المتحجرة كما فعلت مع الاتحاد السوفيتي السابق؛ وكما قامت واشنطن حين ضغطت على الصين وإقنعتها بالانفتاح على الخارج، ولكن بكين كانت قد استعدت جيداً لهذه الخطوة ونجحت في احتواء محاولات اختراق نظامها من الداخل وقامت مبكرأ بوضع خطط للانفتاح المحسوب على الاقتصاد والسوق العالمي والاستفادة منه لدرجة أنها باتت تنافس الاقتصاد الأمريكي على احتلال قمة الاقتصاد العالمي.
وقد نجحت الصين في عهد الزعيم الراحل دينج هسياو بنج مهندس مرحلة التحول من الاشتراكية في التحول إلى الاقتصاد المختلط وتفادي أخطاء قادة الاتحاد السوفيتي السابق، وفي ذلك قال بنج "إن الخطأ الأكبر لجورباتشوف أنه سمح بالحرية السياسية قبل تطوير اقتصاد بلاده" لذا فقد قام بنج بتحديث الاقتصاد الصيني أولاً ثم تبني خطط مرحلية للإصلاح السياسي المدروس في النظام السياسي الصيني، وساعده في ذلك العمق الحضاري الصيني الذي ينظر إلى الزمن بمنظور مغاير للغرب، ولا يعرف العجلة ولا التسرع بل يتمسك بالتأني والهدوء.
لذلك فقط انخرطت الصين بقوة في الاقتصاد العالمي، وفتحت أبوابها أمام المطاعم الأمريكية الشهيرة، التي يدرك الجميع أن لها رمزية ودلالات معنوية هائلة، كونها رمز للثقافة الأمريكية وتحمل "جينات" هذه الثقافة وما يرتبط بها من أمواج العولمة العاتية والرغبة الأمريكية الحثيثة في "نمذجة" العالم ونشر نموذجها الثقافي والحضاري باعتبار ذلك تأكيد على انتصار ما يعرف بـ "الامبراطورية الأمريكية"، ولكن الصين لم تمانع في الانفتاح لما تجنيه من عوائد من وراء ذلك، ولم تشعر يوماً بالقلق إزاء وصول عدد فروع مطاعم "كنتاكي" و "ماكدونالدز" الأمريكية إلى أكثر من 3500 فرع تقريباً بنسبة أرباح هي الأعلى من أي دولة أخرى في العالم.
لا يعني هذا الأمر أن الصين قد اندمجت في الثقافة الأمريكية أو تقبلتها تماماً ولكن هناك بطبيعة الحال معارضة داخل الصين لوجودها باعتبارها رمز لـ"الامبريالية العالمية"، ولكن رحلة هذه المطاعم التي بدأت في نوفمبر عام 1987 لم تزل تمضي بوتيرة متسارعة منذ أن افتتحت أول فرع لها في أشهر ميادين الصين وأكبرها وهو ميدان "تياننمن" بكل مايحمله هذا الاسم أيضا من رمزية سياسية بالغة العمق في التاريخ الصيني المعاصر.
واعتقد ـ شخصيا ـ أن إيران قد درست تجربة الصين في الانفتاح على الولايات المتحدة بدقة بالغة وتخشى عواقبها في حال تكرارها مع الجانب الايراني عقب توقيع الاتفاق النووي وما يقود إليه ذلك من انفتاح مفترض للأسواق وتبادل تجاري وثقافي، فإيران ليست الصين بكل عمقها الحضاري والثقافي، ويدرك الملالي جيداً أن القوة الناعمة الأمريكية قادرة على تفكيك قواعد النظام الثيوقراطي الايراني، وأن هذا النظام لن يصمد كثيراً أمام ماتصفه طهران بالتغلغل الثقافي الأمريكي.
الإشكالية الحقيقية أن الصين ظلت لقرون طويلة بعيدة تماماً عن الثقافة الغربية، تعيش وراء حوائط عازلة، أما إيران فكانت حتى عام 1979 مرتبطة بشكل وثيق بالثقافة الغربية والأمريكية تحديداً، وللآن يشعر الشعب الايراني بحنين جارف إلى العودة للانفتاح على الغرب، وهو مايفسر الترحيب الشعبي الجارف بالاتفاق النووي الموقع مؤخرا، حيث يدرك الايرانيون أن هذا الاتفاق سيكون بوابتهم إلى العالم، في حين استفاق النظام الايراني على خطر هذا الاتفاق وأدرك أنه قد يضع نهاية لسيطرته على الحكم في البلاد.
في الحالة الايرانية أيضاً يبدو الوضع أكثر تعقيدا، فالمحافظين الايرانية ينظرون بارتياب شديد إلى رغبة مطاعم أمريكية في افتتاح فروح لها في إيران، منذ أن نشر الموقع الإلكتروني لسلسلة مطاعم “ماكدونالدز″ الأمريكية، استمارة منح حق الامتيار لفتح أفرع لها في إيران، في إشارة واضحة إلى عزم الشركة المالكة للاستثمار في إيران وأن لدى الشركة خططاً مستقبلية لذلك.
ولاشك أن ملالي إيران يتذكرون جيداً مشهد اصطفاف الآلاف من الروس والصينيين أمام بوابات مطاعم الوجبات الأمريكية السريعة عند افتتاحها في البلدين، حيث كان هذا الاصطفاف بمثابة تصويت بالرغبة في الانفتاح والتعامل مع الثقافة الأمريكية، باعتبار أن هذه المطاعم ليست مجرد وجبات من "البطاطس" واللحوم والدجاج بل هي رمز للثقافة الأمريكية كما ذكرت، ما سيجبر النظام الايراني وقتذاك على تغيير الكثير من ثوابته الحالية، وسيضطر إلى فتح الأبواب في مجالات عدة ما يجعل مجرد البقاء على الوضع الراهن مسألة موضع شكوك عميقة.
التطبيع الثقافي مع الولايات المتحدة إذاً هو أكثر ما يخشاه ملالي إيران في الوقت الراهن، والمسألة هنا لا تتعلق بأدوات ثقافية تقليدية تستغرق وقتاً طويلاً في تشكيل الاتجاهات وتغيير القناعات، بل تتمثل في ثقافة "الهامبرجر" الأمريكية التي يرى فيها النظام الايراني الخطر الداهم الذي يواجهه ولم يصل بعد إلى القناعة الصينية القائلة بأن وجود ثقافة الطعام الأمريكية في الصين لن يغير من طبيعة البلاد وثقافتها.
ربما يكون ملالي إيران قد أفلتوا بالفعل من اخطار جسيمة بتوقيع الاتفاق النووي مع القوى الكبرى، ولكن الاتفاق ذاته ربما يفتح أبواب قد لا يستطيع النظام الايراني الصمود أمامها كثيراً، فالتفكيك الثقافي للأنظمة المؤدلجة يمثل رهاناً أمريكياً واضحاً، وهو مايفسر إصرار إيران على إغلاق باب التعامل مع واشنطن على المسألة النووية، وهو خيار مرفوض غربياً لأن قبول "الصفقة" يعني بالضرورة الالتزام بتطبيق مختلف بنودها.