لاشك أن مايفعله النظام الايراني في منطقة الخليج العربي من بلطجة سياسية وأمنية وخرق للقوانين والأعراف الدولية يمثل حالة فريدة من نوعها في تاريخ العلاقات الدولية، فالنظام الايراني يقفز فوق الثوابت التي استقر عليها النظام العالمي القائم على الاعتراف بمفهوم السيادة الوطنية للدول وتكريس مبدأ "الدولة الوطنية" منذ معاهدة وستفاليا عام 1648، ليأتي هذا النظام الثيوقراطي البغيض لينسف هذه الثوابت ويعيس في المنطقة فساداً، عبر التدخل في شؤون الدول المجاورة والسعي لتفكيكها وإطاحة أنظمتها، وفرض نظريته السياسية / الدينية القائمة على مايعرف بولاية الفقيه على دول أخرى، لا تعترف شعوبها، سواء كانت سنية أو شيعية بهذه النظرية التي تعبر عن فكر ملالي قم.
لم يقتصر الأمر على ذلك بل تجاوز هذا النظام، وقام بتحريض المواطنين الشيعة في دول خليجية أخرى ضد دولهم وأنظمة حكمهم، فأنتجت هذه التدخلات التحريضية رموز للارهاب والعنف والتحريض ضد الدولة ومنهم المدعو باقر النمر، الذي أعدمته المملكة العربية السعودية مؤخراً مع ارهابيين آخرين من المذهب السني بموجب حكم قضائي مر بمراحل التقاضي الطبيعية كافة بموجب النظام القضائي والحقوقي السائد في المملكة العربية السعودية الشقيقة.
لاشك أن تنفيذ الأحكام والقانون هو حق سيادي للدول بغض النظر عن الولاءات الطائفية والانتماءات المذهية والعرقية للمواطنين، وبغض النظر عن موقف أي شخص أو دولة من حكم الاعدام في حد ذاته؛ حيث تشير القوانين الدولية إلى أن تنفيذ الأحكام القضائية هو أحد ركائز سيادة الدولة على أراضيها وجزء لا يتجزأ من العقد الاجتماعي بين الأنظمة والشعوب للحفاظ على الأمن والاستقرار وصون سيادة الدولة ضد أي انتهاكات للقوانين داخلية أو خارجية، ومن ثم يصبح رد الفعل الايراني الطائفي البشع على هذا الحكم نوع من التدخل السافر في الشؤون الداخلية للمملكة، والأبشع من ذلك أن هذا التدخل لم يتوقف عند حد الاعتداءات اللفظية والكلامية والتهديدات الرسمية التي تفوه بها قادة النظام الايراني ورموزه الحاكمة ضد المملكة، بل تعدى ذلك ليشمل الاعتداء الهجمي على مقر السفارة السعودية في طهران، في خطوة تتنافى مع قواعد القانون الدولي التي تلزم الدول كافة من أعضاء الأمم المتحدة بحماية المنشآت الدبلوماسية والقتصلية وطواقمها، واحترام التزاماتها الدولية في هذا الشأن، وهي التزامات نصت عليها اتفاقيات فيينا بشأن حماية البعثات الدبلوماسية الموقعة عام 1961، والتي تعد الأساس القانوني الحالي للحصانة التي تتوافر لممثلي الدول، وتعتبر موادها حجر الزاوية في العلاقات الدولية الحديثة.
لم يكن أمام السعودية من تصرف ومخرج في مواجهة هذا السلوك الرسمي الايراني سوى الرد الحاسم والحازم على هذا المسلك العدواني السافر، لاسيما أن البراهين والدلائل تؤكد أن اقتحام السفارة السعودية والاعتداء عليها لم يكن ليتم سوى من خلال ضوء أخضر من رموز نظام يكاد يحصي أنفاس شعبه ويحاصر مواطنيه في كل بقعة من الأراضي الايرانية، ومن ثم فمن العبث أن يخرج دهاقنة الايراني بحجج واهية وتبريرات وقرارات عبثية للتغطية على فعلتهم النكراء.
وقد لا يكون هناك تحريض أكثر من الذي يمارسه مرشد الثورة الايرانية علي خامنئي ذاته، فهو من قاد التحريض وأشعل فتيل النيران عبر تغريداته النارية على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، حيث قال خامنئي في حسابه باللغة الانجليزية معلقاً على صورة النمر "الصحوة لا يمكن قمعها" كما حملت صفحته صورة تجمع بين السعودية وتنظيم "داعش" في مقارنة لا تليق بقائد ديني ولا سياس يسعى إلى علاقات قائمة على الاحترام المتبادل مع دول الجوار، ولا حتى بزعيم عصابة تسعى إلى بناء قنوات من التواصل مع الآخرين!! لاسيما أن موقف خامنئي فتح الطريق أمام موجة تهديدات عاتية صدرت عن قادة ميلشيات الحرس الثوري، الذي أصبح أحد رموز البلطجة الاقليمية التي تتحرك وتنتقل أينما وجد الجنرال التلفزيوني قاسم سليماني وغيره من قادة هذه الميلشيات الارهابية.
لم يكن أمام المملكة العربية السعودية والحال كذلك سوى ممارسة أحد حقوقها المكفولة بالقوانين الدولية وتأكيد سيادتها على اراضيها والدفاع عن حقها في تطبيق النظام والقانون في مواجهة هذه البلطجة الايرانية العارمة، فلم يكن قرار قطع العلاقات سوى نتييجة طبيعية وبديهية للسلوك الايراني الذي تمادى في تشويه سمعة المملكة والاضرار بمصالحها منذ تورط إيران في تدبير حادث تدافع الحجيج خلال موسم الج الأخير وما أسفر عن ضحايا لا ذنب لهم سوى أن ملالي قم يريدون تشويه صورة السعودية والاساءة إليها والتشكيك في مقدرتها على تنظيم هذا الموسم الديني.
ترى هل يريد ملالي استباحة سيادة المملكة العربية السعودية وأراضيها كما يفعلون في الأراضي العراقية، وكما دفعوا بنحو مليون إيراني لعبور الحدود الايرانية إلى العراق من دون أي أوراق ثبوتية في خطوة لم تكن تهدف إلا لتعديل التركيبة الديموجرافية في المناطق السنية العراق والزج بعناصر الحرس الثوري في مناطق الصراع بسورية والعراق، ربما يكون هذا التصور صحيحاً، ولكن المشكلة أن طهران لم تقرأ جيداً فكر وفلسفة الأداء السياسي السعودي في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز بما عرف عنه من حزم وصرامة وقوة شكيمة في الحق والدفاع عن كرامة بلاده وسيادتها على أراضيها والدفاع عن مواطنيها، كمالم تفهم طهران الرسائل السياسية المتوالية الصادرة من الرياض، ولم تدرك أن الدبلوماسية السعودية قد ضاقت ذرعا باالتصرفات العبثية الايرانية وأنها لم تعد تقبل أي تدخلات في الشرون الداخلية للمملكة أو لغيرها من دول مجلس التعاون والدول العربية، ولا أدرى أن كانت طهران من الغباء بحيث كانت هذه الرسائل عصية على فهمها أم أن الغرور والغطرسة الفارسية قد طغت عليها ودفعت بها إلى ارتكاب هذه الأفعال المتهورة.
وأياً كان السبب أو المبرر الذي يقف وراء السلوك الايراني العدواني، فإن على طهران أن تدرك ان زمن البلطجة الاقليمية قد ولى وانتهى ولن يعود، وأن الاحترام المتبادل والالتزام بالقوانين والأعراف والمواثيق الدولية هو القاعدة الحاكمة لعلاقاتها مع دول مجلس التعاون، وإلا فإن أي خيارات أو بدائل أخرى ستدفع بها إلى ما لاتحمد عقباه.