هناك أسباب وأبعاد وخلفيات عدة للأزمة التي اندلعت مؤخرًا في العلاقات السعودية - الإيرانية، وربما يكون إعدام رجل الدين الشيعي نمر باقر النمر، وما تلاه من الاعتداء الإيراني الهمجي على السفارة السعودية في العاصمة طهران في ظل حراسة الأمن الإيراني، هو قمة جبل الجليد الظاهرة للأزمة الراهنة، أو أنها السبب المباشر، ولكنها ليست السبب الوحيد لها.
اللافت أن إيران تصرفت في هذه الأزمة بمنطق غريب وساذج؛ لأسباب واعتبارات عدة، أولها أن نمر باقر النمر هو بالأساس مواطن سعودي وليس إيرانيا، وأُعدم معه 46 آخرون أدينوا بالإرهاب، منهم 43 سعوديًا، وليس بينهم مواطن إيراني واحد، وهذا هو الأمر اللافت الذي يدفع إلى القول إن إيران قد تصرفت في هذه الأزمة بغباء سياسي وتهور أمني شديد، واعتقدت أن ترك رجال الأمن المتخفين بلباس مدني يحرقون السفارة السعودية في طهران سيمر مرور الكرام، وأن السعودية لن تمضي في سياستها الصارمة التي انتهجتها منذ تولي الملك سلمان الحكم، وما تلا ذلك من قرارات ومواقف حاسمة في أزمات المنطقة، ومنها قرار التدخل العسكري من أجل دعم الشرعية الدستورية في اليمن.
أحد أبعاد هذه الأزمة الكاشفة للنوايا الإيرانية، أنها تجسد دوافع السلوك السياسي الإيراني حيال الدول العربية، وهي دوافع طائفية ومذهبية بامتياز، فإيران لم تحتج على إعدام عشرات المتهمين الذين أُدينوا بالإرهاب من جانب القضاء السعودي، ولن تفعل ذلك؛ لسبب بسيط أن إشكالية إيران ليست مسألة مبدأ أو موقف سياسي ثابت تجاه عقوبة الإعدام كما قد يعتقد البعض، فهو سلوك اعتيادي يمارسه النظام الإيراني بحق معارضيه، ولا يجد في ذلك غضاضة، ولكن يبدو أن طهران وجدت في إعدام نمر النمر دون بقية الذين نُفذ بحقهم حكم الإعدام في السعودية فرصة ثمينة لتأليب المواطنين الشيعة السعوديين ضد بلادهم وحكومتهم، كما وجدت في ذلك فرصة أيضا لإثبات وضعيتها كراعية للشيعة في العالم!!
هناك إشكاليات عدة في التصور الإيراني بالنسبة لمسألة الجلوس على مقعد محامي شيعة العالم والمدافع الأول عنهم، أولها أن إيران ليست مؤهلة للاضطلاع بهذا الدور الديني؛ لأن نظام حكمها الثيوقراطي القائم على نظرية "ولاية الفقيه"، لا يحظى بتأييد من جموع الشيعة، وأن الافتراض الإيراني القائل بأن كل شيعي هو تابع لإيران وأن إيران هي قبلة كل شيعي، هو افتراض زائف وزعم باطل.
الإشكالية الثانية في هذا الإطار، أن التصرف الإيراني في هذه الأزمة يتناقض مع القوانين والأعراف الدولية، ليس فقط على صعيد انتهاك معاهدة جينيف الخاصة بحماية البعثات الدبلوماسية، ولكن أيضا لأنه يعد تدخلا مباشرا في الشأن الداخلي السعودي، وانتقاصا من سيادة المملكة على أرضها ورعاياها، ويبدو أن طهران قد استمرأت سلوكها الشائن الخاص بانتهاك سيادة الدول بشكل مادي، كما حدث في الحالة العراقية واليمنية، أو بشكل غير مباشر عبر تهديد الرياض والضغط عليها؛ من أجل التراجع عن تنفيذ حكم الإعدام بحق باقر النمر.
الثابت أن إيران قد نفذت أحكام إعدام عديدة بحق رجال دين سنة من عرب الأحواز، ولا أحد من دول مجلس التعاون أو غيرها من الدول العربية والإسلامية تبنى موقفًا معارضًا لأحكام الإعدام التي تصدر عن محاكم ثورية أو دينية في إيران، بحكم احترام السيادة الإيرانية.. ومن ثم، وبالكيل بالمعيار ذاته، يصبح الموقف الإيراني بشأن إعدام المواطن السعودي نمر باقر النمر هو بمثابة تدخل سياسي إيراني سافر في شأن داخلي سعودي، ونوع من فرض الوصاية الدينية على رعايا دولة أخرى، ومحاولة فرض الوصاية السياسية على هذه الدولة!!
كشف التوتر السعودي - الإيراني أيضا، عن مظاهر أزمة السيادة الوطنية في المنطقة العربية، ففي ملفات ودول عدة منها العراق وسوريا واليمن وليبيا، هناك غياب للدولة تحت وطأة ما يعرف بالربيع العربي، ومن المعروف أنه إذا غابت مفاصل الدولة ومؤسساتها فلا مجال للحديث عن سيادة وطنية، ويبدو أن إيران قد اعتادت التحرك بحرية شديدة في الكثير من المناطق والدول التي تقف هي ذاتها وراء الكثير مما يحدث فيها.
ولكن غاب عن مخططي السياسات الإيرانية، أن تكرار لعبة الاعتداء على مقرات البعثات الأجنبية - ولطهران بالمناسبة تاريخ طويل في هذا المجال كما يعرف الجميع - غاب عن هؤلاء، أن السعودية لم تكن لتقبل هذا الاعتداء السافر على بعثتها الدبلوماسية، الذي لم يكن الأول من نوعه، بل سبقه حالات اعتداء إيرانية عديدة على دبلوماسيين سعوديين في واشنطن ومدينة كراتشي الباكستانية وبيروت وطهران نفسها، بل إنه من باب المرافقة أن الحرس الثوري الإيراني كان قد دبر مؤامرة لاغتيال وزير الخارجية السعودي الحالي عادل الجبير، حينما كان سفيرًا لبلاده لدى الولايات المتحدة الأمريكية!!
مشكلة إيران الحقيقية أنها لا تقبل مبدأ الاحترام المتبادل في علاقاتها مع جوارها الجغرافي، ولا تكترث بمبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، ومن ثم فهي تقفز على مبدأ سيادة الدول العربية على أراضيها، ويحدث ذلك في وضح النهار في العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين، وسبق أن تباهى مسئولوها علنًا باحتلال أربع عواصم عربية وتحويل إحداها (بغداد) إلى عاصمة للإمبراطورية الفارسية القديمة الجديدة!!
ولو صمتت السعودية على السلوك الإيراني، فلم يكن صمتها ليهدأ أو يحتوي "الغضب" الإيراني المزعوم على إعدام النمر كما يعتقد البعض، بل كان سيفتح أبواب الشرور على العالم العربي بأكمله؛ لأن طهران لم تكن لتكتفي بحرق السفارة السعودية، بل ستمضي في طيشها السياسي إلى أمدية أبعد من ذلك بمراحل.