طغت أنباء رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران على تغطيات وسائل الاعلام العربية والعالمية خلال الأيام الأخيرة، وتباينت الرؤى والتحليلات في تفسير سلوك النظام الايراني خلال الفترة المقبلة، بل تباينت التحليلات حول تقدير الرابحون والخاسرون من وراء رفع العقوبات عن إيران، وذهب البعض إلى الاعتقاد بأن دول مجلس التعاون تأتي في صدارة الخاسرين من عودة إيران وانفتاحها على العالم.
مثل هذه التصورات هي رؤى مبتسرة للمشهد الراهن، ففي اعتقادي أن دول مجلس التعاون في صدارة الرابحين فعلاً لا قولاً، اقتصادياً وسياسياً وأمنياً في حال عودة "العلاقات الطبيعية" بين إيران والعالم، ولكن قناعتي هذه تبقى مقيدة ومرهونة بتطبيق مفهوم "العلاقات الطبيعية"، بما يعنيه من سلوك سياسي وأمني رشيد وسياسة خارجية تلتزم قواعد الشرعية والقانون والأعراف الدولية بما في ذلك عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والالتزام بمعايير حسن الجوار وغير ذلك من أطر متعارف عليها ضمن منظومة العلاقات الدولية.
لا أحد ينكر المردود التنموي الهائل على دول مجلس التعاون حال التزام إيران سلوك الدولة الرشيدة، ولكن الشكوك تكاد تقترب من اليقين في أن إيران لن تستطيع التعامل كدولة طبيعية في سياستها الخارجية على الأقل خلال المدى المنظور، لأن هذا يتطلب ـ ببساطة ـ التخلص من كل هؤلاء "الوكلاء" والميلشيات التي استثمر فيها الملالي عشرات المليارات من الدولارات من أموال الشعب الايراني طيلة العقود والسنوات الماضية، فهذا أمر مشكوك فيه جملة وتفصيلاً بالنظر إلى أن السياسة الخارجية الايرانية قائمة ـ في جانب كبير منها ـ على هؤلاء "الوكلاء"، وما يعزز هذا الاحتمال أن العلاقة بين الطرفين ليست مصالحية بحتة، بل هي ذات جذور أيديولوجية وفكرية يصعب انهائها بـ "جرة قلم" كما يقال.
ما يغيب عن البعض أيضاً أن إيران قد تعود إلى الساحة الدولية، ولكن من بوابة حسابات الموائمة بين القوى الكبرى، وليس من باب القناعة بحدوث تغير جذري أو تحول نوعي في السلوك السياسي الايراني، وشتان بين الحالتين، ففي الحالة الأولى يبقى تفاعل إيران مع محيطها الاقيمي والدولي رهن بقاء الأسباب التي التحقت بموجبها بالركب الدولي، في حين أن الحالة الثانية تضمن لها تفاعلاً طبيعياً مع العالم من دون الارتهان كثيراً للمعادلات الدولية الحاكمة للنظام العالمي.
ثمة أمر لافت ايضاً في بعض التحليلات العربية وحتى الغربية، ويتمثل في اعتبار رفع العقوبات عن إيران بمنزلة "صفعة" لإسرائيل، وهو أمر لا يقول به من يعي حقائق السياسة الدولية وأسسها وعواملها الحاكمة. ومثل هذه التحليلات ليست سوى أحد أوجه الحسابات الخاطئة والمعايير المقلوبة لدى بعض التيارات والأطراف في عالمنا العربي عند تقييم نتائج أي حدث سياسي، فحزب الله اللبناني ـ على سبيل المثال ـ خاض حربا عبثية منذ سنوات قلائل ضد إسرائيل، كان ثمنها تدمير الاقتصاد والبنى التحتية اللبنانية ومقتل وتشريد الالاف من المدنيين، ولكن الحزب ومؤيدوه اعتبروا أن المحصلة النهائية هي هزيمة إسرائيل لا لشىء سوى لأن حسن نصر الله أفلت من الضربات الجوية الاسرائيلية، وبقى على قيد الحياة رغم أنه ظل مختبئاً طيلة فترات القصف و حتى اليوم!!.
هناك بموازاة ذلك أيضاً، من بات يطلم الخدود ويشق الجيوب معتبراً رفع العقوبات نوع من "النذالة السياسية" الأمريكية، متهماً الولايات المتحدة بعدم الوفاء لحلفائها من دول مجلس التعاون، وهذا أيضا كلام من شأنه تسطيح الأمور وتفريغها من مضامينها الحقيقة، وتبسيط العلاقات الدولية إلى حد السذاجة، فمصالح الدول لا تؤخذ بالعواطف، بل تدار وفق معايير وحسابات دقيقة، وقد لا يكون هناك برهان على ذلك من الخلاف الحاصل في داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها حول عواقب الاتفاق النووي مع إيران، وهو خلاف يقصي الأمر بأكمله بعيداً عن فكر "المؤامرة"، ويؤكد أن ماحدث يمثل وجهة نظر إدارة الرئيس أوباما، وهي وجهة نظر لها مبرراتها، التي قد نتفق معها أو نختلف، كما هو الحال مع الداخل الأمريكي ذاته، ولكن علينا في جميع الأحوال الاعتراف بأنها تستند إلى "حسابات"؛ الأمر الذي يملي علينا بالتبعية بناء مواقف قائمة على حسابات تخص دولنا، وليس علينا الانتظار حتى يأخذ "الآخر" مصالحنا بالاعتبار، لاسيما إذا اختلفت الرؤى والتصورات في فهم مايدور داخل محيطنا الجغرافي.
ربما اخفقت إدارة الرئيس أوباما في بناء استراتيجية فاعلة للتعامل مع النظام الايراني، وهو ماحدث بالفعل، ولكن هذا لا يعفينا كخليجيين من مسؤولية عدم بلورة استراتيجية موحدة للتعامل مع التحدي الاستراتيجي الايراني حتى الآن!! بل إننا لم نستطع حتى بلورة استراتيجية إعلامية مشتركة إزاء هذا التحدي، ولا تزال هناك تباينات واضحة لكل ذي بصيرة على مستوى الخطاب السياسي والاعلامي بين عواصم دول مجلس التعاون الست، وهو أمر يريح النظام الايراني ويصب في مصلحته تماماً، فطالما سعت طهران إلى إحداث الوقيعة والانقسام بين دول مجلس التعاون وتهيئة التربة أمام تفكيك المنظومة العربية الجماعية الوحيدة القادرة على الفعل السياسي!!.
لا يعني ماسبق أنني أقف ضمن صفوف "الواقعيين" في النظر إلى مسألة رفع العقوبات عن إيران، أو المعتقدين بأن سلوكها السياسي قابل للتغير، بل العكس من ذلك تماماً، فلا اعتقد من الأساس بوجود خلافات جذرية بين ملالي النظام الايراني، بل هي أقنعة وتوزيع للأدوار، ولا يمكن لعاقل أن يتخيل أن الرئيس روحاني قد نجح بمفرده في تمرير الاتفاق الذي فشل سلفه نجاد في إبرامه، فالمسألة ترتبط بالاساس بحسابات رأس النظام وقمة هرمه المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي منح الضوء الأخضر للأول وحجبه عن الثاني!!.
ولاشك أن بناء تصور استراتيجي متماسك حول الفرضية القائلة بحدوث تغير في سلوك النظام الايراني، مرهون بعوامل عدة أولها مقدرة النظام على التخلي تماماً عن فكر الثورة لمصلحة فكر الدولة، وهو أمر مستبعد في الوقت الراهن على الأقل بالنسبة لجزء مهم من مؤسسات النظام مثل الحرس الثوري، الذي يمارس دوره بمنطق البلطجة وخرق القانون الدولي، ولعل الاعتداء على المقار الدبلوماسية السعودية مؤخراً يعد مؤشراً واضحاً في هذا الاتجاه. والعامل الثاني أن إيران لم تحدث أي تغيير في سلوكها الاقليمي، ولم تظهر علامة واحدة على امكانية التراجع عن تدخلاتها في الشؤون الداخلية للعراق وسورية واليمن ولبنان والبحرين، بل ونيجيريا ودول أخرى قد لا يسع المجال لذكرها هنا.
مايحدث الآن ليس سوى حلقة جديدة ضمن مسلسل السياسة الدولية، فإيران التي ظلت عقود وسنوات تلعب دور الشرطي الاقليمي، وحائط الصد الأمريكي في مواجهة الطوفان الشيوعي، قد انتقلت لسنوات مماثلة تقريباً إلى مربع العداء مع حليف الأمس الذي تحول إلى عدو اليوم، وباتت طهران أقرب إلى الكرملين من البيت الأبيض، وها هي الآن تعود متأبطة ذراع روسية لتصافح من كانت تعتبره ربما حتى ساعات قلائل مضت "الشيطان الأكبر"!! هذا مايحدث في العلن، أما في الخفاء فقد أبقت طهران على "شعرة رفيعة" مع واشنطن طيلة السنوات الماضية رغم الضجيج الاعلامي والسياسي، ولا ينبغي في هذه الجزئية تحديداً تجاهل الخدمات التي قدمتها إيران للقوات الأمريكية في أفغانستان والعراق، من أجل إطاحة غريميها اللدودين (حركة طالبان ونظام صدام حسين).
الخلاصة أن حسابات المصالح تملي على الغرب فتح أذرعه لإيران في المرحلة الراهنة، وعلى دول مجلس التعاون وبقية الدول العربية إدراك مصالحها وبناء تحالفاتها وفقاً ذلك، فلا وقت للاستمتاع بمشاهد العناق الايراني ـ الأمريكي، ولا وقت أيضا لانتظار من يحفظ لدولنا حقوقها وسيادتها ومكتسبات شعوبها، فنحن ـ في الخليج العربي ـ أخبر بقدرات الملالي في تغيير الأقنعة، وأهل مكة أدرى بشعابها.