"سيل" من الصفقات التجارية الأوروبية مع إيران... هكذا لخصت بعض وسائل الاعلام الغربية مجمل زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى فرنسا وايطاليا مؤخرا، فلعاب أوروبا قد سال بعد انتظار طويل من أجل جني ثمار ماراثون المفاوضات النووية مع طهران، فكان الاهتمام الأول والأساسي هو توقيع الاتفاقات والفوز بالجزء الأكبر من كعكة الاستثمارات المتوقعة في الاقتصاد الايراني، وطهران كانت تدرك هذه اللهفة الأوروبية وتحسن توظيفها لمصلحتها، ما يفسر توقيع الرئيس روحاني على اتفاقات بنحو 45 مليار دولار مع الجانب الفرنسي، شملت شراء نحو 120 طائرة "ايرباص"، وعودة شركة "بيجو" الفرنسية الشهيرة للسيارات إلى التصنيع في مصنع لها بالقرب من طهران، وفي رحلته التجارية الى ايطاليا قبل زيارة باريس، وقع روحاني على عقود بقيمة 17 مليار يورو.
عناوين كثيرة تصلح للتعبير عن هذه الزيارة، ولكن أهمها على الإطلاق ـ برأيي ـ هو تغطية التماثيل وتعرية المصالح، فخلال هذه الجولة تناست أوروبا قيمها ومبادئها تماماً، إذ اكتفى الجميع بالصمت حيال التقارير التي سبقت الزيارة وتحدثت عن احتلال إيران المرتبة الثانية عالمياً في تنفيذ عقوبة الاعدام، وتجاهلوا شعارات كتب عليها "مرحباً جلاد الحرية"، واتفق الطرفان ـ الفرنسي والايراني ـ ضمناً على منح المصالح أولوية مطلقة رغم أنف القواعد البروتوكولية، التي كادت تفسد الزيارة قبل نحو شهرين من الآن، أي في موعدها الأساسي السابق، الذي تم تأجيله على خلفية اعتداءات باريس الارهابية.
فرنسا من جانبها قفزت على تباين وجهات النظر حول دعوة الغذاء الرسمية من دون كحول بحسب طلب الجانب الايراني، وقامت بالغاء حفل الغداء الرسمي، بينما حفلت زيارة روحاني إلى ايطاليا بتنازلات أكثر تجسدت في تقديم الطعام الحلال والأهم تغطية التماثيل الايطالية الشهيرة العارية ـ بأمر مباشر من رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رينزي كما ذكرت وسائل اعلام ايطالية ـ أثناء زيارة الرئيس روحاني إلى متحف روما حتى لا يشعر فخامته بأي مضايقات أثناء مروره في المتحف!!.
ربما يبدو الفارق في حجم "التنازلات" البروتوكولية مساوياً لحجم معاناة الاقتصادين الفرنسي والايطالي جراء الازمات المالية والاقتصادية التي تعانيها دول منطقة اليورو. وهكذا أيضاً يبدو تأثير المصالح والأرقام في أبهى صوره، وعلى الجميع إدراك الدرس جيداً. فرغم أن الفارق الزمني بين توقيت زيارة روحاني الأساسي خلال شهر نوفمبر الماضي والزيارة الأخيرة منذ أيام يبدو قليلاً بحسابات الزمن، ولكنه فارق هائل بحسابات السياسة ولغة الارقام والمصالح، فروحاني قد جاء إلى أوروبا هذه المرة، ومعه كثيراً من العقود التجارية وقليل من ملفات السياسة، فقد رفعت العقوبات الاقتصادية عن بلاده، وجاء حاملاً أقلامه وشيكاته التي ينتظرها الجميع، بينما زيارة نوفمبر السابقة لم تكن على الدرجة ذاتها من الأهمية الاقتصادية والتجارية، فلم يكن للأرقام ـ وقتذاك ـ مرتبة متقدمة في النقاشات!!.
خلال الزيارة الأخيرة لم يثر أي جدل حول بروتوكولات تقديم "النبيذ" خلال مآدب الطعام التي تقام على شرف الضيوف في قصر الأليزيه، وهي الإشكالية البروتوكولية التي تسببت من قبل في تأجيل زيارة الرئيس الايراني الأسبق محمد خاتمي إلى فرنسا من أبريل 1999 حتى أكتوبر من العام ذاته، ثم برز الجدل ذاته على هامش زيارة روحاني إلى فرنسا في نوفمبر الماضي. وأخيراً، جاء روحاني إلى باريس، وقد استقر الطرفان على إجراء تغيير في مراسم الاستقبال، بالغاء حفل الغداء الرسمي، حتى لا يتم تقديم النبيذ على شرف الضيوف من الرؤساء.
مثل هذه الإشكاليات البروتوكولية قد تبدو ظاهرية أو سطحية الأبعاد ولا دلالات لها، ولكن الأمر في الحقيقة يقع ضمن جوهر السياسة، ولا يخلو من دلالات، فالسياسة لا يمكن أن تغيب عن تفاصيل أي حدث سياسي، وفي مذكرات وزير الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت (1997ـ 2001 ) ما يكفي للدلالة على ماتنطوي عليه بعض التفاصيل الصغيرة من إشارات كبيرة، فقد قال من عملوا معها أن "الدبوس" الذي كانت تضعه على "الجاكت" الذي كانت ترتديه كان يكشف عن "أجندة عملها" ومواقفها النفسية والسياسية حيال أي موضوع قبل أن تتطرق إليه. وقيل أنها أكثر وزير خارجية في العالم قامت بتوظيف مجوهراتها من أجل إرسال رسائل سياسية ودبلوماسية، أو ماعرف فيما بعد بدبلوماسية "دبابيس الصدر" حتى قيل أن وزراء الخارجية المناظرون كانوا ينتظرون رؤية ماترتديه من مجوهرات ودبابيس على صدر ملابسها للتعرف إلى أفكارها ومواقفها ومزاجها العام. وقد تطرقت أولبرايت ذاتها إلى ذلك كله في كتابها الشهير المعنون "أقرأ دبابيس الزينة الخاصة بي: روايات من صندوق مجوهرات دبلوماسية"، حيث سردت في هذا الكتاب الشيق العديد من القصص والحكايات والمواقف حول استخدامها للدبابيس لإرسال رسائل سياسية أثناء المفاوضات والحوارات، ومن ذلك أنها ارتدت دبوساً على شكل "حصان" حينما قابلت وزير الخارجية السعودي الراحل سعود الفيصل للتأكيد على إدراكها ثقافة الغرب وحبهم للفروسية والخيول في رمزية شديدة الذكاء من جانب وزيرة خارجية القوة العظمى الأوحد في العالم، وهناك إشارات دبلوماسية عديدة في طريقة المصافحة والعناق وغير ذلك الكثير والكثير مما يقال.
ما أقصده أن هناك إشارات صغيرة لكنها تقع في قلب السياسة طالما أنها وجدت فيها أو خرجت منها، والجدل البروتوكولي هو جزء من أدبيات العلاقات الفرنسية ـ الإيرانية على خلفية وضع المشروبات الكحولية وتوافر وجبات "أكل حلال"، فالدول في مثل هذه الحالات تعتز ببروتوكولاتها التاريخية المعتادة الخاصة باستقبال الرؤساء والشخصيات الهامة، لاسيما في دولة مثل فرنسا، حيث تحتل مختارات النبيذ الفرنسي مكانة خاصة في بورتوكول وجبات الغداء المعدة للرؤساء والقادة الزائرين لقصر الاليزيه.
الدرس الأساسي في انهاء الجدل حول النبيذ الفرنسي أو تغطية تماثيل ايطاليا، أن الأمر في ظاهره قد يرتبط بالبروتوكول ولكن جوهره يوحي بصراع مصالح وقيم وثقافات ورغبة من الجانبين في اثبات الحضور وقوة التأثير في أول اختبار سياسي لطهران خارجي بعد خروجها من عزلتها الدولية ورفع العقوبات الدولية عنها.
والحديث عن إعلاء لغة الارقام والمصالح ليس أمراً طارئاً في العلاقات الدولية بل هو الأساس فيها، وإلا ماتخلى الرئيس الفرنسي هولاند المعروف بحبه للنبيذ وتباهيه بدعوة ضيوفه إلى تذوق أطيب أنواعه خلال الزيارات الرسمية التي يقوم بها زعماء العالم إلى بلاده، عن عاداته وارتضى تغيير البروتوكول من أجل ارضاء روحاني.
الأمر لم يكن خالياً أيضاً من السياسة، فالرئيس الايراني لم يكن يبحث عن الصفقات فقط في رحلته إلى ايطاليا وفرنسا، بل سعى أيضاً إلى ما يعزز موقفه الداخلي ويضاعف أثر النقاط السياسية، التي حصدها في أعقاب رفع العقوبات عن إيران، وهنا جاء دور الصور التذكارية "الحلال" والفوز ببعض الرمزيات من هذه الجولة، مثل تفادي أي حرج بوجود الخمور أو غيرها فضلا عن رمزية وجود روحاني في باريس وما تعنيه من انفتاح على العالم الغربي، ولما لزيارة باريس تحديداً من دلالات ثقافية وسياسية بالنسبة للساسة الايرانيين، ناهيك عن الأهمية الاستثنائية للزيارة، كونها الأولى من نوعها لرئيس إيراني إلى فرنسا منذ عام 1999.
فرنسا من جانبها لم تكن تريد تفويت فرصة جني ثمار جهدها التفاوضي ضمن مجموعة "5+1" رغم أنها كانت الطرف الدولي الأكثر تشدداً في هذه المفاوضات النووية الماراثونية مع طهران، أما ايطاليا، فكانت أكثر وضوحاً ـ كما ذكرت ـ حين غطت تماثيلها!!
ربما كانت جولة روحاني بالنسبة لدول مجلس التعاون، فرصة مناسبة لتعرف حدود التقارب الأوروبي مع إيران ومداه، حيث تعتبر فرنسا البوابة الايرانية المفضلة نحو العالم الغربي، ومن ثم فإن ما طرح على مائدة الحوار قد ينطوي على مؤشرات مهمة حول طبيعة الانفتاح الايراني على الغرب خلال المرحلة المقبلة.