مؤخرا، قال المرشد الإيراني علي خامنئي إن بلاده تعتبر برنامجها الصاروخي عنوانا لقوتها، وقال صراحة “إن مستقبل الجمهورية الإسلامية ليس في المفاوضات بل في الصواريخ”، ولم يكتف بذلك بل جدد دعمه للحرس الثوري في تطوير هذا البرنامج. معظم المراقبين اعتبروا أن هذا التصريح مفاجئ في ضوء التطورات الأخيرة في العلاقة بين إيران والقوى الغربية الكبرى، وذهب بعضهم إلى أن هذا البرنامج قد يدفع بالعلاقات الإيرانيةـ الأميركية تحديدا إلى مربع التوتر مجددا،
بينما ذهب البعض الآخر من المحللين إلى أن تصريحات خامنئي موجهة أساسا إلى الرئيس حسن روحاني الذي بات يتفاخر بإنجازه السياسي المتمثل في توقيع الاتفاق النووي وإخراج إيران من عزلتها الدولية.
ومن اللافت أن شريحة كبيرة من المحللين الذين يتصدون لتفسير اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية ليسوا متابعين دقيقين لهذه السياسة، بل ويغفلون أمورا مهمة من شأنها تقديم صورة أوضح عنها، فمن يقول أن هناك ما يوصف بصراع الأجنحة في إيران حول العلاقة مع الغرب، يتغافل عن الحقيقة المتعلقة بأن الصراع السياسي في إيران لا يشمل الخلاف على الثوابت، ولا يتضمن جدلا بشأن الاستراتيجيات بل يتمحور حول المستوى التكتيكي، وليس أدل على ذلك من أن الرئيس روحاني، الذي أحدث انفراجة نوعية في العلاقات مع الغرب، هو نفسه الذي قال قبل تصريحات خامنئي بأيام قلائل “إن تعزيز القدرات الدفاعية الإيرانية يمثل سياسة استراتيجية”. ولكنه تمايز عن خامنئي في التكتيك حين قال في التصريح ذاته “إن إيران يجب أن تحرص على عدم استفزاز أعدائها، وأن عليها توخي الحذر حتى لا يجد أعداء إيران أي ذريعة لاستغلال ذلك الموقف”.
باعتقادي الشخصي، فإن توقيت “التسخين” الإيراني لملف البرنامج الصاروخي متعمد ومقصود لذاته، فلا يعقل أن يرتكب أي مبتدئ في السياسة خطأ إجراء تجارب صاروخية مقلقة رغم مرور أشهر قلائل على توقيع الاتفاق النووي الذي أنهى الجدل حول هذا البرنامج المثير لقلق دول الجوار والغرب على حد سواء، كما لا يعقل ان تستفز طهران القوى الكبرى بتجارب صاروخية في وقت لم يتم الإفراج فيه عن الأموال الإيرانية المجمدة بشكل كامل بعد، كما لا يعقل أيضا أن يتم اختيار “التوقيت الأسوأ” لإجراء تجارب صاروخية إلا إذا كانت طهران تتعمد استفزاز الغرب وإثارة مخاوفه، وهي بالتأكيد لا ترغب في ذلك كله.
قد يقول قائل إن نهج إيران الدائم هو التحدي وليس الاستفزاز، وإن الغرب سيذعن لمطالبها كما أذعن من قبل في الملف النووي، ولكن هذا التحليل ينطوي على نصف الحقيقة وليس كلها. صحيح أن إيران كثيرا ما تلجأ إلى لغة التحدي، ولكنه تحد محسوب بدقة، ولا ينزلق إلى فخ المخاطرة أو المجازفة الاستراتيجية، وليراجع المتشككون سجل إيران السياسي ليدركوا أن خطواتها محسوبة بدقة وحذر شديدين، وليس من طباعها الاندفاع والمخاطرة. وبالتالي فإن التجارب الصاروخية الإيرانية في هذا التوقيت الأسوأ بالنسبة لمصالح إيران بعيدة عن فكرة الاندفاع أو التحدي أو غير ذلك.
أغلب الظن أن طهران تسعى إلى فتح مساحة ابتزاز جديدة للغرب، والولايات المتحدة تحديدا، فهي تدرك تماما حساسية وحرج موقف الرئيس أوباما، وصعوبة تبنيه موقفا معاكسا لسياسته المهادنة حيال إيران، في السنوات الأخيرة، فهو من راهن على فاعلية الحوار في احتواء خطرها، وجازف بمستقبله السياسي من أجل دعم ورعاية مفاوضات ماراثونية صعبة مع الوفد الإيراني برئاسة جواد ظريف، الذي تحول من عدو وغريم إلى صديق ودود للمسؤولين الأميركيين من كثرة اللقاءات والحوارات. ومن ثم يدرك ملالي إيران أن الرئيس أوباما لن يهدم حلمه بيديه، ولن يقوض ما يعتبره أحد أهم انجازات فترتي رئاسته بالانفتاح على إيران، وبالتالي فقد تلجأ طهران -على الأرجح- إلى ابتزاز البيت الأبيض وإحراجه خلال الأشهر الأخيرة المتبقية من الولاية الثانية للرئيس الحالي.
يدرك الملالي أيضا خطورة تراكم الأدلة والقرائن القانونية على تورطهم في التخطيط لاعتداءات 11 سبتمبر 2001، لذا نجدهم يندفعون بوتيرة متسارعة نحو إثارة جبهة خلاف جديدة مع الغرب، الذي سال لعابه من أجل الفوز بنصيب من “كعكة” التقارب الاقتصادي مع إيران، سعيا وراء صفقة جديدة تقايض إغلاق ملف دعم إيران للإرهاب الدولي بفتح أبواب الغاز والاقتصاد الإيراني أمام الشركات الغربية.
والمؤكد أن الملالي يثبتون يوما بعد آخر أنهم لا يتغيرون وغير قابلين للتغيير، ومن يعتقد فيهم ذلك فهو يرتكب خطأ استراتيجيا جسيما، فهم قادرون على التلون والمناورة والالتفاف، وفارق كبير بين أن تتلون وأن تتغير، ولا أعتقد أنهم غامضون للدرجة التي تخدع أي خبير بفلسفة الحكم في إيران، ولا أعتقد أيضا أن الرئيس أوباما قد تعرض للخداع في ما يتعلق بنوايا إيران، ولكنه يسعى إلى استنساخ سيناريو تفكيك النظام من الداخل، فهو يدرك هشاشة النظام الإيراني، ويثق في أن اختراقه ثقافيا وسياسيا سيعجل بانهياره، ولكن ما غاب عنه حقيقة أن الملالي قد فطنوا لخطته، وأن التمسك بالقدرات الصاروخية الإيرانية ليست سوى تمترس واحتماء من انهيار محتمل للنظام تحت وطأة ضغوط التقارب مع الغرب.
لست أيضا مع الفكرة القائلة بأن الملالي يسعون إلى تهديد الغرب بصواريخهم الباليستية، فهم يدركون أن الترسانة الصاروخية الإيرانية ليست ضمانة لتحقيق أحلامهم التوسعية الفارسية، ولكنها يمكن أن تكون أداة ابتزاز جيدة للفوز بالبعض من الغنائم في صراع تقاسم المصالح بين القوى الكبرى في سوريا وغيرها.
تتعدد إذن الأسباب المحتملة لتسخين إيران ملفها الصاروخي وتسريع وتيرة أحداثه في تطور مغاير للتوقعات وطبيعة الأمور، ولكن الأنظمة الثيوقراطية عموما من الصعب أن تتعايش بسلام في محيطها الجيو- استراتيجي وفق المعايير المتعارف عليها دوليا، فهي أنظمة صراعية بطبعها، لا تعيش سوى في أجواء الأزمات والصراعات، وإن لم تجدها تختلقها وتفتعلها، فهي بيئتها الطبيعية الأثيرة، التي تضمن من خلالها الالتفاف الشعبي، واصطفاف الأتباع والمناصرين والمؤيدين في الداخل والخارج.