تعلمنا في دراسة العلاقات الدولية قاعدة مهمة وردت للمرة الأولى على لسان رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل وهي "ليس لبريطانيا أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون وإنما لها مصالح دائمة"، وهذه القاعدة لا تنطبق بداهة على بريطانيا ـ قديماً وحديثاً ـ فقط بل على دول العالم كافة، كما أنها (القاعدة) كانت، ولا تزال، تحكم العلاقات بين الدول جميعها وترسم خارطة المصالح الاستراتيجية، لاسيما في ظل تزايد التناقضات والتشابكات والتعقيدات التي تهيمن على النظام العالمي.
في دولة الإمارات، حيث تحتاج تجربتنا التنموية الطموحة أكثر ما تحتاج إلى بيئة اقليمية ودولية آمنة ومستقرة، يبدو الأقرب لنا أنه لا أعداء دائمون ولكن هناك أصدقاء دائمون ومصالح دائمة، فالتنمية تحتاج إلى توسيع دوائر التعاون مع دول العالم كافة، ولاسيما في المجالات الاقتصادية والتقنية والاستثمارية والبحثية والعلمية والصناعية، وهي مجالات تبدو محور خطط التنمية المستقبلية الإماراتية سواء تعلق الأمر بـ"مئوية 2071"، أو المبادىء ألـ(10) لوثيقة الخمسين، التي ترسم الخارطة السياسية والاقتصادية والتنموية للسنوات المقبلة، وتحدد المسار الاستراتيجي لدورتها التنموية المقبلة، حسبما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله.
لو اتفقنا ـ مبدئياً ـ على أن أي خلاف أو حتى صراع بين الدول إنما ينجم بالأساس عن اختلاف أو تباين في المصالح الاستراتيجية والعلاقات النفعية لأطراف هذا الخلاف، فإن تغير المعطيات وتبدّل الحسابات الاستراتيجية وظهور متغيرات جديدة إنما يدفع تلقائياً باتجاه ذوبان الجليد وتغير قواعد اللعبة التي تحكم أي خلاف أو توتر في العلاقات البينية، فالحراك الدائم الذي يميز السياسة بشكل عام يسهم في ايجاد معطيات جديدة ومن ثم بروز أرضيات مشتركة وتقاطعات يمكن أن تكون أساساً لتفاهمات تنهي أي خلافات مهما كان حجمها لأنها بالأساس خلافات حول مصالح تنتهي بانتهاء السبب او الأسباب المؤدية إليها، أو بروز معادلات جديدة ترجح حسابات الأرباح على حسابات الخسائر في العلاقة بين الأطراف المتخاصمة أو المتنازعة أو حتى المعادية.
في ضوء ماسبق يمكن فهم مايحدث من حولنا في الشرق الأوسط، حيث تلعب الامارات دوراً رئيسياً في رسم شبكة علاقات وخارطة تحالفات لم تكن قائمة قبل أسابيع قلائل، ولكنني لا استطيع أن أقول أنها خارج التوقعات، لأن من يفهم لغة السياسة يدرك يقيناً أنه لا مستحيل في العلاقات الدولية، فالمصالح تختلف وتتغير وكذلك العلاقات، وبالتالي من الخطأ النظر للأمور من منظور ضيق يكتفي باسقاط الماضي على الحاضر بل والمستقبل. كما أنه من الخطأ التمسك بجمود المواقف وعدم مراجعتها في ضوء التغيرات والمتغيرات التي تطرح نفسها وتحمل مكاسب/ خسائر استراتيجية للدول والشعوب معاً، وبالتالي فالتقدم وارد وبالدرجة ذاتها تبقى احتماليات التراجع؛ فالجمود معاكس للتقدم والتطور، اللذين يحتاجان إلى دينامكية وأحياناً براجماتية شديدة تتفادى فكرة القطيعة المطلقة، فلا طلاق بائن في السياسة، ولاسيما في ظل قواعد اللعبة التي تحكم المرحلة الراهنة في العلاقات الدولية، وهي مرحلة فاصلة بين مرحلتين، نظام عالمي ينحسر ويتآكل ونظام عالمي يتشكل.
من هذا المنظور التحليلي يمكن فهم جزءاً كبيراً من دوافع القيادة الاماراتية وتحركاتها الدبلوماسية النشطة في الآونة الأخيرة على الصعيد الاقليمي، فبعد توقيع اتفاق السلام مع اسرائيل في أغسطس من العام الماضي، تشهد الآونة الأخيرة توافقات مع إيران وتركيا وغيرهما من الدول والقوى الاقليمية التي مرت العلاقات معها بموجات شد وجذب لأسباب وعوامل متباينة ترتبط كلها باختلاف الرؤى الاستراتيجية، ومن البديهي الإشارة هنا أن التغير الحاصل أو المعطيات الجديدة التي تلعب دور الرافعة الاستراتيجية للتوجهات الجديدة لا ترتبط بالإمارات فقط، فالمسألة لا تتعلق بتغير في الخط الاستراتيجي الإماراتي، بل ترتبط أساساً بحدوث تغيرات جوهرية في مواقف طرفي العلاقة، ونقصد هنا الإمارات وإيران، والإمارات وتركيا، بمعنى وجود أرضية مشتركة يمكن للطرفين الوقوف عليها وتسوية أي خلافات ثنائية والبحث عن مسارات جديدة للعلاقات بما يضمن تحقق مصالحهما المشتركة.