في عام 1997 انتخب الإيرانيون الرئيس “الإصلاحي” محمد خاتمي، واستبشر الكثيرون خيرا بوجوده في منصب الرئاسة الإيراني، وتجاهلوا أن هذا المنصب لا يضمن للجالس عليه التحكم بشكل حقيقي في مفاصل السياسة الإيرانية وتوجهاتها،
وأن الرئيس ليس قمة هرم السلطة في النظام الثيوقراطي الإيراني. ولكن الغالبية، إقليميا ودوليا، انساقت وراء الخطاب السياسي الناعم للرئيس الأسبق خاتمي، واعتقدت أن إجادته للغة العربية ودراسته الجامعية للفلسفة تعنيان، بالضرورة، تحولا نوعيا في السياسة الخارجية الإيرانية، ولكن خاتمي بقي فترتين رئاسيتين مارس خلالهما تقية سياسية استشعر معها العالم بالخدر يسري في أوصاله، وأسهمت في ذلك تلك المبادرة التي شبعت جدلا ونقاشا وهي مبادرة، “حوار الحضارات” التي أطلقها خاتمي من فوق منبر الأمم المتحدة في مستهل فترته الرئاسية الأولى، تاركا إياها تتفاعل وتحدث الكثير من الضجيج وسط الدوائر البحثية والسياسية من دون خطة تنفيذية حقيقية تترجمها.
ولكن ما لبث الجميع أن أفاقوا على خبر وصول الرئيس السابق أحمدي نجاد إلى كرسي الرئاسة، منتهجا خطا سياسيا مغايرا تماما لسلفه، طاويا صفحة حوار الحضارات بعد أن حققت أهدافها، وتمّ تمرير الجزء الأكبر من البرنامج النووي الإيراني وإشغال المجتمع الدولي والقوى الكبرى عما يدور في مفاعلات بوشهر ونطنز وأصفهان وآراك وفوردو، بعيدا عن تلك المبادرة “الغطاء”، وجاء نجاد ليطلق تصريحه الشهير “القضية النووية انتهت، الأعداء لا يمكنهم سوى اللعب بقصاصات ورق، ولن يتمكنوا من القيام بشيء”، وبعدها بعامين عاد إلى نيويورك ليسخر من واشنطن داعيا باراك أوباما إلى حوار “وجها لوجه، من رجل إلى رجل” من فوق المنصة ذاتها التي تحدث خاتمي من فوقها عن التعايش والحوار العالمي.
إيران اختارت أحمدي نجاد عضو الحرس الثوري الإيراني خلفا لخاتمي، وتجاهلت هاشمي رفسنجاني، وكلنا يعرف كيف تمضي اللعبة السياسية في إيران وفق معايير مشددة تضمن وصول الشخص المناسب لولي الفقيه إلى كرسي الرئاسة، وليس الشخص الذي يريده الشعب الإيراني، فلم يكن المرشد يريد وقتذاك رفسنجاني بعد تصريحاته التي تناثرت حول تأييده لإقامة علاقات جيدة مع واشنطن والتفاوض مع الغرب.
في عام 2013 انتخب الإيرانيون، كبير المفاوضين الإيرانيين حول البرنامج النووي الإيراني رئيسا للبلاد في توجه لم يكن يعكس تغيرا في استراتيجيات إيران بقدر ما انطوى على تغيرات على المستوى التكتيكي، فلم يكن الأمر مصادفة، فالأمور لا تمضي في بلاد الفستق والسجاد وفق منطق الصدفة، حيث أعطى المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي ضوءا أخضر لتتويج ماراثون المفاوضات السرية مع القوى الكبرى باتفاق نهائي.
اللافت أن روحاني وجد من انخدع مرة ثانية في رسائل ودلالات وصوله للمنصب، وانتشرت التحليلات والتقارير والدراسات حول مغزى وصول الرجل إلى رئاسة إيران، ودلالات ذلك بالنسبة للأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي، ولكن روحاني لم يخيب ظن من هم على علم ودراية عميقة بالسياسة الإيرانية، فأطلق في نهاية العام الماضي تصريحات انتقد فيها وزير خارجية دولة إقليمية كبرى مثل المملكة العربية السعودية قائلا بلغة لا تليق برئيس دولة لم يسبقه إليها من سبقوه في منصبه “هناك شبان بلا خبرة في أحد بلدان المنطقة لن يصلوا إلى أي مكان بمخاطبتهم الكبار بفظاظة”، في إشارة إلى عادل الجبير وزير الخارجية السعودي، وكانت تلك نبرة مغايرة تماما لتصريح آخر له كان قد أطلقه روحاني ذاته فور وصوله إلى السلطة وصف فيه المملكة العربية السعودية بأنها “شقيقة وصديقة لإيران في المنطقة”، مؤكدا وقتذاك رغبته في إزالة التوترات الطفيفة بين البلدين.
كلمة السر وراء تلك التحولات ليست في الأشخاص، الذين هم أدوات تنفذ إرادة المهندس الحقيقي للسياسة الخارجية الإيرانية، وهو المرشد الأعلى علي خامنئي، فهو من يختار الرجل المناسب لكل مرحلة.
في هذه الحالة قد يقول قائل “كيف نفهم إذن بوصلة السياسة الخارجية الإيرانية؟” والإجابة على هذا التساؤل بسيطة للغاية، فمن يريد فهم البوصلة عليه أن يتابع تصريحات قادة الحرس الثوري الإيراني، فخطوات وتصريحات قادته تعكس بوضوح إرادة المرشد الأعلى، الذي هو الرئيس الفعلي المباشر للحرس، الذي يشرف بشكل مباشر على البرنامج النووي والصاروخي الإيراني، وكذلك ترسانة إيران الكيميائية والبيولوجية.
وفي ضوء كل ما سبق يمكن أن نفهم ما وراء التصريحات العدائية التي أطلقها محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري الإيراني مؤخرا ضد كل من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين، حيث نقلت وسائل إعلام إيرانية، ومنها وكالة تسنيم القريبة من الحرس الثوري، تصريحات جعفري في أول اجتماع للمجلس الأعلى لقادة الحرس في السنة الإيرانية الجديدة، حيث هدد بأن بلاده ستردّ على أيّ إجراء، خاصة من قبل السعودية والبحرين. والأمر هنا قد يبدو أيضا عاديّا للبعض باعتبار أن الردّ على أي إجراءات عقابية مسألة بديهية، وقد يكون الرد عقابيا ضمن إجراءات المعاملة بالمثل المتعارف عليها دوليا. ولكن ما لا يجب أن نتجاهله أن جعفري تحدث عن الرد في سياق حديث عن الصواريخ الإيرانية التي “باتت أكثر دقة وتدميرا من السابق”، وهي رسالة تهديد واضحة لدول مجلس التعاون. وما يؤيّد ذلك أن تصريحات جعفري قد صدرت عقب قرار المملكة العربية السعودية، حظر أجوائها ومطاراتها على شركة ماهان للطيران المدني، التابعة للحرس الثوري، واتهام مستشار وزير الدفاع السعودي أحمد عسيري إيران بأنها لم تعد عامل “عدم استقرار في المنطقة” فحسب، وإنما تسعى أيضا إلى إطالة أمد النزاعات في دول عربية عبر دعم ميليشيات مرتبطة بطهران. كما أن تصريحات جعفري قد أعقبت كذلك تصريحات تهديد أكثر غلظة وفظاظة وردت على لسان القيادي في الحرس الثوري الإيراني سعيد قاسمي، الذي طالب في مارس الماضي بضم مملكة البحرين إلى إيران. زاعما أن “البحرين محافظة إيرانية مقتطعة”. ناهيك عن أن جعفري ذاته لوح في تحدّ لدول مجلس التعاون بما وصفه بـ”سيف حزب الله” حيث قال إن “سيف أنصار الله سيبقى بتّارا أكثر من أي وقت مضى”، واصفا الحزب الذي يعدّ أحد أذرع إيران التي تستوجب البتر والاستئصال، بـ”أعظم ظاهرة في شرق المتوسط”، معلنا أن بلاده ستواصل دعم الحزب بكل ما لديها من قوة.
الغطرسة الإيرانية التي ينطق بها قادة الحرس الثوري هي المرآة الحقيقية للسياسة الخارجية الإيرانية لمن يسعى إلى فهم ما وراء القناع الإيراني الزائف، ومن لا تخدعه “التقية السياسية”، فإيران التي تتحدث كثيرا عن ضرورة فتح صفحة جديدة في العلاقات مع دول مجلس التعاون، هي ذاتها التي تطلق السم من أفواه أفاعي الحرس الثوري.