يجتهد ملالي إيران في إرهاق ذهن المراقبين والمحللين المعنيين بالشأن الإيراني، فهناك سلوكيات يصعب تفسيرها، وأخرى لا تفسير لها على الإطلاق. ومناسبة هذا الحديث هو إدارة الملالي لملف موسم الحج هذا العام، فقد أعلن وزير الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني، علي جنتي، مؤخرا منع الحجاج الإيرانيين من الذهاب إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج هذا العام، ملقيا بالمسؤولية على الجانب السعودي، وهذا أمر متوقع،
رغم أن السبب الحقيقي يتمثل في فشل المباحثات بين الجانبين الإيراني والسعودي في التوصل إلى اتفاق، بسبب تعنت ورفض بعثة منظمة الحج والزيارة الإيرانية، التوقيع على محضر الاتفاق الخاص بترتيبات الحج.
ولأنني أراقب هذا المشهد تحديدا منذ فترة عن قرب، فقد لاحظت أنه منذ وصول الوفد الإيراني للتفاوض بشأن إجراءات الحجيج الإيرانيين وهو يتعمد إثارة المشكلات وتصيّد الأخطاء وتوتير الأجواء من أجل بلوغ لحظة الرفض والصدام، ما يعني أن زيارة هذا الوفد للسعودية لم تكن سوى إجراء شكلي للتذرع بالرفض ومحاولة إلقاء المسؤولية على الجانب السعودي فقط لا أكثر ولا أقل.
الإشكالية الأساسية في هذه الأزمة المفتعلة من الجانب الإيراني، أن السعودية، ولديها كل الحق، ترفض تسييس الحج والمتاجرة بالدين في هذه المناسبة الدينية الخالصة، وهي مسألة ليست على هوى إيران، التي تنتظر مناسبة الحج السنوية لافتعال الأزمات وإثارة المشكلات مع الدولة السعودية تحديدا.
وبحسب المصادر الرسمية، فإن الرياض وطهران كانتا قد اتفقتا على إصدار التأشيرات بشكل إلكتروني من داخل إيران، بموجب آلية اتفق عليها مع وزارة الخارجية السعودية، كما اتفقا على نقل الحجاج مناصفة بين الناقل الوطني السعودي والناقل الوطني الإيراني، وكذلك الموافقة على طلب الوفد الإيراني السماح لهم بتمثيل دبلوماسي عبر السفارة السويسرية لرعاية مصالح الحجاج الإيرانيين، الأمـر الذي يعكس مرونة السلطات السعودية وتفهمها لاحتياجات الحجاج الإيرانيين والعمل على راحتهم، ولكن الغريب أن هذه المرونة قوبلت بإصرار إيراني مـريب على شروط لا تقع ضمن طقوس الحج المتعارف عليها، حيث أصرّ الوفد الإيراني على تضمين محضر ترتيبات الحج طقوسا مذهبية محددة، مثل “إقامة دعاء كميل ومراسم البراءة ونشرة زائر”، وهي طقوس يدرك الجميع أنها سياسية بامتياز، ولا علاقة لها بالطقوس الدينية لفريضة الحج.
الموضوعية تقتضي القول إن المملكة العربية السعودية من حقها الحصول على ضمانات كافية لعـدم تكرار ما حدث من تزاحم متعمّد يهدّد حياة ملايين الحجاج من دول العالم الإسلامي كافة، كما يهمها أيضا تفادي وقـوع حوادث تزاحم تسيء إلى صورة السعودية عالميا، وتقلل من الجهود الهائلة التي تبذلها على مدار العام لعدم تكرار ما حدث خلال موسم حج العام الماضي.
|
ربما يكون المتغير الجديد في هذه المسألة أن السلطات السعودية لم تعد تتساهل مع طيش الجانب الإيراني وسعيه الدائم إلى استغلال مرونة دول الجوار وتساهلها في التعامل مع طهران، فوسائل الإعلام الإيرانية تتاجر منذ أشهر مضت بموسم الحج، واستبقت المواقف زاعمة أن السعودية ترفض زيارة الحجاج الإيرانيين إلى بيت الله الحرام.
ولما تعاملت الرياض بعقلانية ووفقا لما تمليه تعاليم الدين الإسلامي الحنيف والتزاماتها المعروفة حيال هذا الملف، فوجئت إيران برغبة السعودية تقنين الموضوع والتعامل في إطار حضاري يضمن للطرفين حقهما ويحول دون تكرار التجاوزات السياسية المتكررة من جانب الحجاج الإيرانيين.
ما حدث هذا العام من السلطات السعودية قد تأخر كثيرا، وهذا التأخير تسبب في تحويل موسم الحج إلى مناسبة سنوية للاستعراض السياسي من جانب النظام الثيوقراطي الإيراني، ولكن وضع النقاط على الحروف في هذا الموضوع خطوة بالغة الأهمية حتى وإن جاء متأخرا.
تريد إيران استغلال موسم الحج لهذا العام لإثارة الإشكاليات مع السعودية وتصفية الحسابات السياسية القائمة مع الرياض، وتلك مسألة كريهة ومرفوضة لأنها تلحق الضرر بالعالم الإسلامي بأكمله، وتحوّل فريضة دينية روحانية إلى منصة للشعارات السياسية الجدلية، في وقت كان يفترض أن يتسامى فيه الملالي عن وضع الخلاف السياسي مع السعودية ضمن إطار ملف ديني.
السعودية ليست بحاجة إلى تحويل مناسبة دينية يشارك فيها نحو ثلاثة ملايين مسلم إلى سيرك للتهريج والابتزاز السياسي، بما يفرغ الفريضة من مضمونها الروحي، ناهيك عن وجود احتمالية عالية للزجّ بميليشيات شيعية قادرة على إثارة الاضطراب الأمني وسط هذا العدد الهائل من الحجيج من أجل إحراج السلطات السعودية أمام العالم واتهامها بالفشل التنظيمي المتكرر لموسم الحج.
تلك هي نزعة متجذرة لدى الملالي، فالدين لديهم ليس سوى وسيلة لتحقيق أهداف سيـاسية صرفة، شأنهم في ذلك شأن جماعات وتنظيمات سنية إرهابية مثل “الإخوان المسلمين” و”داعش” وغيرهم من تنظيمات الإرهاب والعنف المسلح، التي تتخفى وراء أقنعة وشعارات إسلامية، في حين أنه لا علاقة لها بالإسلام وسماحته ووسطيته.
إشكالية إيران أنها باتت تركز على التحوّل إلى مركز عالمي للمسلمين الشيعة، وهي فكرة تقفز على الولاءات الوطنية وتنسف أسس الدول والأوطان، لأن الممارسة الإيرانية في هذا الشأن ذات طابع سياسي وليست دينية، فإيران ليست قم بل هي دولة ذات أطماع توسعية، وبالتالي فإن الولاء لا يكون لملالي قم بل لملالي يجلسون على كرسي الحكم في طهران.
الحقيقة أن السلوك الإقليمي لإيران بات أحد عوامل الاضطراب في المنطقة، فلا يترك الملالي فرصة إلا ويستغلونها لتحقيق مآرب سياسية، وموسم الحج قد دخل للأسف ضمن هذه الحسابات، فهو يمثل فرصة “مثالية” للزجّ بالآلاف من عناصر الميليشيات لإثارة الفوضى بدعوى أداء فريضة الحج. وموقف السعودية في هذا الإطار بالغ الحساسية والحرج لأن الأمر يتعلق بفريضة دينية، لا مجال لمنع أحد من المسلمين عن أدائها، وهنا تتجلّى الانتهازية الإيرانية في أبشع صورها.
فكرة اتفاق المبادئ الحاكم لسلوك الحجاج الإيرانيين خلال موسم الحج هي مبادرة حضارية للتعاطي مع هذا الموضوع الشائك، ولكن يبدو أن ملالي إيران يريدون استمرار التفلّت من أيّ التزام، بحيث يتصرفون وفق مخططهم إن لم تكن مؤامراتهم المدبرة لإفساد موسم الحج المقبل.